تفهم في النفسية يا دكتور ؟!

تفهم في النفسية يا دكتور ؟!

بقلم :: سالم الهمالي 

ثلاثون عاماً مرت منذ ان التقيت ذاك المريض الذي فاجئني في عيادتي الصباحية بقاعدة ” السارة” – حكاوي بنينه – في أقصى الجنوب الليبي قريبا من الحدود التشادية، حينها كنت حديث التخرج، ولست من ذوي الخبرة، فاسقط في يدي، وعرفت بعد ذلك ان عليَّ ان اتعلَّم الكثير حتى افهم ( نفسية) المريض.
قبل ايام كنت في عيادتي الصباحية، لتدخل السيدة تونزلي وزوجها، كالعادة مرة كل ستة أشهر منذ خمسة عشر عاما. تحضر معها ما صنعت يداها من اجود انواع الكعك، حتى اصبح عرفا يدركه كل الأطقم الطبية المساعدة. تاريخ طويل وحافل من الامراض والعمليات الجراحية تفخر به السيدة تونزلي، ولا تمل من تكراره في كل زيارة، نصيبي منه عميلة واحدة هي سبب هذه المعرفة الطويلة وما تلاها من متابعة، ربما ميزها انها أتت بعد ان تردد اخصائيين قبلي من القيام بها، لخطورتها والنسبة العالية للمضاعفات في إجراءها. منذ ذلك الحين اصبحت بدون إرادة مني ” وسيط” للسيدة تونزلي، وبعد ذلك زوجها في الاستشارات الطبيّة، ومنها الى شؤونهم الاجتماعية وهي بيت القصيد.
مع الزمن اصبحت استقطع وقتا اضافيا لهم، اسمع ما يقولونه بعناية، لعلي اتعلَّم شيئا جديدا في علم النفسية الذي عجزت عن ادراكه في بدايات حياتي المهنية، وكاد ان يتسبب في فقد حياة احد مرضاي. حياة زوجية طويلة، فاقت الخمسين عاما، تلت تجربة زواج فاشلة لكليهما نتج عنها ابنة لها وابن له، لتتكون العائلة من جديد، ثم تنشطر وتتشظى مرة اخرى بصورة غير اعتيادية. تعلمت انه في كل زيارة عندهم شيء جديد يريدون ان يقولونه لي، لكن عليَّ ان اعرف طريقة للسؤال بما يفتح جعبتهم المعبأة، وفِي ذلك وجدت فنون وطرق تسبر سريرة الانسان وتفصح عما يخبئه. احيانا، تأتي الدموع منهمرة، ونحيب طويل، يلزمني ان اترك مقعدي لاربت على كتف السيد تونزلي، او ألقي بذراعي حول زوجته، محاولا التخفيف من مصيبتهم، والممرضة تناولنا المناديل لأمسح دموعهم.
عجيب ذلك الانسان الذي يحكم على الناس عن بعد، او بمظهرهم، فلا شيء يغني عن ملامسة الناس والإحساس بما يكنونه من مشاعر وأحاسيس، وما يعتقدونه من أفكار ومبادئ. لا احد ممن شاركهم الجلوس في صالة الانتظار يدرك ما دار او يدور عندما يدخلون الى حجرة الطبيب، حين يكشفون عن سرائر نفوسهم بكامل ارادتهم. البنت العاقة التى لا تتواصل مع أمها، والابن الذي اصبح ضيفا على جلالة الملكة، وقصص الاقارب ومقالبهم في محاولة فرض آراءهم على الآخرين. و الحيل والخدع للاستحواذ على المال والثروة بين الورثة. الصراع الأزلي بين الخير والشر في الانسان اجده كتابا حقيقيا مشرع امامي فيه ما يعجز عن حبكه وصياغته ابلغ الروائيين. كثيرا ما تساءلت: هل هذا من واجبي او في صميم عملي وانا من يمتهن على الجراحة الطبية ؟!
تجارب الحياة تعلمنا الكثير، والخبرة هي حوصلة لتلك التجارب، ومنها ادركت ان الطبيب قبل ان يكون متخصصا بارعا في مجاله، يجب عليه ان يكون ” إنسانا” يحس بمعاناة الناس ويستشعر من يبطنونه، فهو من القلة الذين يثقون بهم ثقة كبيرة، ربما تكون كاملة وأحيانا شبه عمياء، وعليه ان لا يخذلهم. انا لا اعرف ان كان ما اقضيه من وقت معهم يخوله القانون، ولكن ادرك ان مفعوله يعطيهم دفقا يستعينون به على مشاق الحياة ونكباتها، وربما يثنيهم عن الأقدام على ما فعله مريضي في السارة …

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :