تنورة صفراء

تنورة صفراء

  • قصة قصيرة :: عائشة إبراهيم

– أنظري، إلى الشابة التي تقف هناك، تلك، التي ترتدي تنورة صفراء وشالاً أبيض، وتدير وجهها باتجاه البحر.
قالت المرأة الثلاثينية الكحيلة العينين التي تجاورني في مقعد الانتظار بعيادة الأسنان، وهي ترقب شيئاً من خلف زجاج النافذة الكبيرة المطلة من الدور الرابع على “طريق الشط”، استدرتُ إلى حيث أشارت، كان الأفق مهيباً والبحر شديد الزرقة، تمخر عبابَه أمواجٌ بيضاء هادئة ومسالمة، تبدو كندف قطن متناثرة في حقل من الفيروز، هالني اتساع السماء، وسكون قوارب الصيد الراسية في الميناء البعيد، وحركة السيارات المسرعة وهي تنهب الطريق. همزتني المرأة من كتفي، وأشارت من النافذة، بإصبع أسمر رقيق في طرفه بقايا حناء باهتة:
– تلك، التي ترتدي بلوزة زهرية وتتحدث بالهاتف الآن، هل تصدقين؟ إنها تقف في نفس المكان منذ ساعتين!!.
لمحتُ طيفاً بعيداً، تنورة صفراء تتماوج بلون حقول السنابل الناضجة، وطرفيّ شال أبيض يرفرفان على جانبي كتفيها، كجناحي نورس يريد أن يحلق بعيداً، هذا كل ما رأيته من تلك الفتاة التي تدير وجهها باتجاه البحر، ولم أفهم سر اهتمام رفيقتي بالنظر إليها، ولكأنها قرأت تساؤلاتي، فحدجتني بنظرة مرحة، وقالت عاقدة حاجبيها القصيرين:
– ما رأيك؟ هل نفكر معاً؟
باغتتني ضحكة، (نفكر معا؟!!) أي جرأة هذه، وفيم سنفكر؟، وما الذي يجمع بيننا لنفكر فيه؟ استغربت كيف لهذه المرأة أن ترفع الكلفة وتتحدث معي بهذا الانبساط؟ وأنا كل الذي نطقتُ به مذ دخلت إلى غرفة الانتظار هو تحية مقتضبة، واستئذان شكليّ للجلوس على المقعد الشاغر المجاور لها، لكن شيئاً مثيراً يدعوني لقبول مغامرة التفكير مع امرأة غريبة، مصابة بلوثة من نوع ما، لكنها ملهِمة بالتأكيد.. تركتُ النافذة والتفتت نحوها:
– فيم سنفكر؟
– في موضوع الفتاة، تلك التي تقف على الشاطئ منذ ساعتين.
– حسنا، ما بها؟
– نحاول أن نعرف أسباب وقوفها الطويل هناك.
قالت مندفعة كأن الأمر مسألة أمن قومي لا تحتمل التأجيل، وحين قرأتْ ملامح القبول على وجهي، بادرت:
– سنقوم بتحليل المواقف، تماماً كما يفعل السياسيون على القنوات الفضائية، انظري، ألا ترين أن أمرها غامض ومريب؟
– ربما كانت تنتظر أحداً.
– هذا ما نريد التفكير فيه، أن نأخذ بالحجج والأسباب، من تنتظر ولماذا؟ أليس الأمر لعبة مسلية؟
– لعبة؟
– ألم تلعبي لعبة التخيل من قبل؟
قالت بابتسامة منشرحة وهي تبعد بأصابعها الرقيقة، خصلات من شعرها الكستنائي المصبوغ حديثاً، وتعيدها عنوة تحت الوشاح، تركتني عالقة في مصيدة السؤال، يعتصرني طيف حنين غامض من الأعماق، نداء حزن لذيذ مكبوت في الذاكرة البعيدة، روح طليقة تصفق بجناحيها لتنفخ في الرماد، لعبة خطرة من يعلق في شراكها لا يعود، لو تعلمين أيتها المرأة، كم أنهكني الخيال، قضيت مئتين وعشرين يوما في غيبوبة لذيذة، وأقسم أنني شاهدت أبطال قصصي يتآمرون على قتلي، وحين نصبت لهم كميناً، لاذوا بالفرار، أسكتي أيتها الكحيلة الظريفة، ماذا تعلمين عن لعبة التخيل، ليست هذه لعبتك، اذهبي وخضبي كفيك بالحناء، ضعي أحمر شفاه والتقطي صوراً جميلة وانشريها في الانستغرام، ودعي متابعيك يحللون محطاتك السعيدة، وإياك أن ترهقي نفسك بأوجاع الخيال.
كانت ما تزال تسوّي أطراف وشاحها القاتم، وياقة بلوزتها الحمراء، وتعدل من جلستها كأنها ستفضّ في منازعة قضائية، وبصوت واثق متحمس افتتحت جلسة التداول قائلة:
– ما رأيك أن نتخيل أن الفتاة تنتظر حبيباً، أنظري إلى ألوان ثيابها: الأصفر لون الغيرة، الأبيض لون المستقبل والزواج، الأزهار الحمراء على قميصها لون الحب والأنوثة. سكتت قليلا، وحين لم أعلق بشيء أضافت:
– وهي تحادثه الآن، تعاتبه لأنه تأخر، وهو يعتذر لأنه في مكان بعيد، الرجال الذين لا يحبون بصدق يفتعلون أسباباً كثيرة للاعتذار، أظنه لن يأتي.
– لماذا تظنين ذلك؟
– لا أتصور أنه يحبها، أنظري إليها، فتاة تدير وجهها عن كل العالم، تقف منذ ساعتين وحيدة في نفس المكان، تعاود الاتصال عشرات المرات، بلا يأس، بلا ملل، بلا تردد، أي حب هذا؟ أتراه يستحق؟
– لكنه يبقى افتراضاً، ربما ليس حبيباً، سأفترض شيئا آخر، ربما كانت تنتظر صديقة، النساء من يتأخرن عادة عن مواعيدهن، أنا أتأخر في العادة، التأخير يصيبني بالإحراج.
– صديقة!! على شاطئ البحر؟ لا يبدو الأمر منطقيا، البحر للعشاق يا رفيقتي، هل سبق وأن انتظرتِ صديقة عند البحر؟
قالت متعجبة، فباغتني سؤالها كوخزة شوكة ماكنة، اقشعرت لها كل خلايا جسدي، أشحتُ بوجهي في اتجاه النافذة، غمرتني رائحة البحر الطازجة توقظ حزناً لم ينم بعد، وأطلت صورة فوق الموج البعيد، خيطاً رفيعاً من ذكرى صديقة مفارقة، ضحكاتها العذبة المجنونة، أحاديث صباح بطعم القهوة، أحلاماً وأمنيات، عهوداً انتحرت في أول اختبار، داهمني هدير الموج، كأنين حيوان جريح، تطارده الذئاب، وتخضل ماؤه بلون رمادي قاتم، غارق في الحداد.. كنت أريد أن أتوسل إليها لتوقف لعبتها السمجة، فجرحي مازال غضاً لم يكمل عامه الأول بعد، وليس لملح البحر أن يضمد الجراح المفتوحة. أجفلتُ في اللحظة التي ضغطت فيها على يدي، بخاتمها المعدني الكبير، أدركت أنني سرحت بعيدا عن مدارات التحليل المفترضة، ابتسمت لي بوداد حار، متأهبة للوقوف، كانت الممرضة تكرر مناداتها للدخول إلى غرفة الكشف، قالت بحميمية وهي تغادر:
– حاولي دائما تحليل المواقف، أظننا نحتاج إلى ذلك لنفهم الحياة.
أومأت لها برأسي موافقة فصافحتني بحرارة وغادرت، أغلقتُ النافذة وأدرت وجهي عن البحر، وعن الفتاة الغامضة المسكونة بأسرارها، وحين انتهيت من الكشف وخرجت من باب العيادة باتجاه الطريق، لمحت الفتاة تدسُّ هاتفها في حقيبة يدها وتبتعد رويدا رويدا عن الشاطئ، بخطوات وئيدة، تتماوج تنورتها الصفراء بلون حقول السنابل الناضجة، ويرفرف شالها الأبيض على جانبيها كجناحي نورس يريد أن يطير.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :