ثقافةُ الاعتصام

ثقافةُ الاعتصام

  • يونس الفنادي

أدخلت ثورة فبراير مفردة الاعتصام إلى قاموس حياتنا السياسية والاجتماعية بشكل سريع، ومؤثر جداً على نبض الحياة اليومي في بلادنا، دون أن نعي انعكاساتها على الجانب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وما يترتب عنها من دعاية سلبية لمستقبل ليبيا الحبيبة توحي بغياب الاستقرار، وما يبعثه ذلك بعدم اطمئنان شركات المستثمرين للمساهمة برؤوس أموالهم وخبراتهم في تنمية البلاد ونهضتها الموعودة.

ومما لا شك فيه، أن الاعتصام حق مشروع كفله الإعلان الدستوري المؤقت في مادته الرابعة عشر التي شملت سبعة حريات محددة بالنص التالي (تضمن الدولة حرية الرأي، وحرية التعبير الفردي والجماعي، وحرية البحث العلمي، وحرية الاتصال، وحرية الصحافة ووسائل الإعلام والطباعة والنشر، وحرية التنقل، وحرية التجمع والتظاهر والاعتصام السلمي، وبما لا يتعارض مع القانون) وذلك للتعبير عن الاعتراض أو جملة من المطالب، مثل تحسين الدخل أو ظروف العمل أو تطوير خدمات الإدارة وغيرها، ولكن بشرط ألا يتعارض ذاك الاعتصام والاعتراض في شكله وأسلوبه ولغته مع القوانين النافذة والمعمول بها.

ولا شك بأن الاستمرار في الاعتصام دون إداركٍ لما يجره من مخاطر وخيمة على الدولة، هو انحدار بالفكر السياسي يقود إلى ممارسات توقف الأعمال الإدارية، وتعطل الأنشطة الاقتصادية الذي قد يؤدي إلى التهور والهلاك، وهذا لا يمكن أن يقبله أو يرتضيه أي مواطن غيور على بلده، يسعى جاهداً من أجل تطورها ورقيها، بعد أن افتكت حريتها، وحطمت أغلالها، واستعادت هويتها المصادرة عبر عقود من الزمن.

فمنذ أن منَّ الله على ثورة فبراير بالانتصار المؤزر على نظام ديكتاتوري لم يترك إلاَّ الفساد والفوضى والقصور والظلم بشتى أنواعه، استعادت الطاقات الحية في البلاد صوتها للتعبير بكل حرية وشفافية مطلقة عن رغباتها ومطالباتها في العيش بكرامة وعزة، ونيل حقوقها المسلوبة عبر عقود الظلم واللانظام. ولكن مع الاتفاق على تلك الحقوق، شكَّل أسلوب المطالبة بنيلها عثرةً كبيرة أمام الإجراءات التنفيذية والعملية لتوضيح تلك المطالبات المشروعة.

فمثلاً ترك اعتصام موظفي قطاع الطيران المدني في مدينة بنغازي آثاراً سلبية سريعة على شركات الخطوط الجوية الليبية والتونسية والتركية والمصرية، وقدرت الخسائر الأولية بحوالي مليون دينار ليبي إثر إلغاء عدد من الرحلات الدولية والمحلية لتلك الشركات الجوية. كما أن اعتصام وإضراب موظفي شركة الخطوط الإفريقية عن العمل أدى إلى تكبدها خسائر فادحة تقدر بحوالي أربعة ملايين دينار. كما أن اعتصام المواطنين ضد المجلس الوطني الانتقالي في ميدان الشجرة بمدينة بنغازي وميدان الجزائر بالعاصمة طرابلس أدى إلى تعطل الكثير من الأعمال لمدة طالت شهوراً متتالية جرَّت وراءها الكثير من الخسائر على الاقتصاد الوطني الذي يحتاجنا الآن للعمل معاً من أجل تعافيه من جملة الأضرار التي خلفتها حرب نظام معمر القذافي ضد الشعب الليبي.

وأحسب أن معظم الاعتصامات التي تتوالى بالظهور في الشارع الليبي تنطلق في تنظيمها من الروح العدائية الشخصية والفكرية الايديولوحية نتيجة بعض الصراعات على المناصب ومحاولة الاستحواذ عليها سواء بشكل شخصي أو قبلي أو عشائري، وهذا مع ما أقره الأستاذ إدريس عبد الحميد الشريف رئيس الرقابة على المصارف والشركات في بنغازي، خلال حديث لشبكة الجزيرة، حول الاعتصامات في الشارع الليبي، حيث أكد (أن أغلبها جاء لتصفية الحسابات الشخصية، وتأسف على الأضرار الكبيرة التي لحقت بالبلاد نتيجة الاعتصامات، وقال إنَّ أيَّ اعتصامٍ يعني توقف العمل الذي بدوره يؤدي إلى خسائر مادية ومعنوية، وإهدار لموارد الدولة).

ولو كانت ثقافة الاعتصام مترسخة لدى المعتصمين بحسها الوطني العميق، فلماذا إذاً لا ينظمون اعتصاماتهم خارج ساعات الدوام الرسمي حتى لا يتعطل تسيير مصالح وإجراءات المواطنين والقطاعات العامة والخاصة؟ أو الاكتفاء بوضع علامة احتجاج أو إشارة أثناء الدوام الرسمي مع استمرارية العمل وعدم توقفه؟ حتى نجنب اقتصادنا الجريح إضافة المزيد من الخسائر.

ومع الإيمان المطلق بأهمية ترسيخ ثقافة الاعتصام بهدفها المشروع والتعبير عنها بالأسلوب الحضاري الراقي، فإن الحس الوطني والمصلحة العامة يجب أن تكون هي الكفة الغالبة والراجحة رغم كل شيء.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :