نموذج غير نمطي للأقدام السود ومنظر عظيم للعالم العربي الاسلامي
ترجمة : رحمة بوسحابة /الجزائر
لم تتم تسوية الحسابات بين المُحتلِّين والمحتَلين بعد، وعندما سيحدث ذلك سيكون “جاك بيرك” الذي توفي عن عمر ناهز 85 عاما شاهدًا رئيسيًا عليها باعتبار أن عمليّة إنهاء الاستعمار في الجزائر والمغرب شكّلت حياته وكذا خبرته.
وُلد “بيرك” لأبوين فرنسيين في مقاطعة الجزائر ، كان من الأقدام السود لكنّه بالكاد يمثّل نموذجا لهذه الفئة. كان والده”أوغسطين بيرك” علّامة ومستعربا متميزا، وهو من بين القلائل الذين اهتموا بالثقافة الإسلامية في المغرب الكبير خلال الفترة الحالكة التي تلت مغازلة “لويس نابليون” لمشروع مملكة عربية تحت رعايته الخاصَّة[1]، وظهور القومية الحديثة في هذا القرن.
كان مصير البلدين المغاربيين الأكبر تحت حكم الاستعمار مختلفًا تمام الاختلاف، ففي الجزائر كانت الجمهورية الثالثة تعني أن السلطة قد انتقلت إلى المستوطنين الأوروبيين (الإيطاليين والإسبان والألزاسيين والمالطيين، وكذا الفرنسيين الحقيقيين) والذين ادعوا بأن السكان الأصليين لم يكن لهم وجود أو لم يكونوا ذوو أهميّة تُذكر، كما لم تزدهر البعثات العلميّة رغم أنه من بين قلة من العلماء الذين تواجدوا هناك كان البعض منهم هم الذين أشاروا إلى أن الإسلام الجديد المقدّس النقي قد حلَّ محلَّ الطقوس الدينية المنتشرة حتى ذلك الوقت، وهو ما كان يشكل تهديدًا للوضع القائم، بمنحه شعوراً بالهوية القومية الدينية للبروليتاريا الريفية المسحوقة آنذاك، وقد كانت القلة إن وجدت (بما في ذلك جاك بيرك نفسه في نهاية المطاف) شاهدة كيف سيكون هذا التغيير راديكاليا في النهاية، وأنه لن يهدد النظام الفرنسي فحسب، بل وخليفته القومي الثوري أيضًا.
كانت هذه هي البلاد التي ولد فيها جاك بيرك. وكغيره من المولودين هناك كان عليه أن يتعلم اللغة العربية جيدًا في وقت لاحق من حياته، ويتقن هذا الفن الباطني بشكل كبير. لم يكن بيرك قطعا مواطنا نموذجيا للمجتمع الأوروبي في الجزائر الذي كان يتشكل من البرجوازيين الصغار، مفتولي العضلات، غير المثقفين أو المعادين للفكر، والشعبويين الفلستينيين[2]، على عكس ألبير كامي الذي رغم أناقته الأدبية يمثّل منتجًا نموذجيًا لهذا المجتمع أكثر من بيرك، لقد كانت وجودية كامو بشكل ما، مجرد اعتماد ذاتي سافر وغير مؤسَّس نظريا لمتشرد في الشوارع على ميناء متوسطي، كما كان السيد جاجايوس Monsieur Cagayus الرمز الحقيقي لروح الأقدام السود ، وهو شخصية شعبية خيالية ولكنها محبوبة ورمزية، وفكاهية، ومحدودة، ومستهترة ، إنّه نوع من شخصيات رواية “الجندي الصالح زفاك”.
قدم بيرك من بلاد كاجايوس[3]، ولكن كونه الأرستقراطي المثقف مع حياة داخلية مضطربة لم يكن يشبهه بأي شكل من الأشكال. بدأ مساره المهني في المغرب بداية، حيث كان النظام الاستعماري مختلفًا تمامًا عن الجزائر، فهو قد أُنشئ في العقود الأولى من هذا القرن من قِبل رجال كانوا يتوقون إلى تجنب الأخطاء التي ارتكبت في الجزائر المجاورة حيث كان المستوطنون الوافدون يهيمنون على المجتمع الأهلي الأصلي. في حين تمّت تقوية النخبة المحليّة في المغرب الذي لم يعاني بشكل كبير من حرب الغزو(التي حرض فيها التيتون-جرمانيو الشمال- والسلاف التابعين للفيلق الأجنبي ضد بربر المرتفعات الذين قاتلوا في كل الأحوال على كلا الجانبين) ، أو من حرب التحرير (التي تمّ فيها تحريض سكان الأكواخ غير القبلية ضد الشرطة الكورسيكية الشديدة والإدارة الصغيرة). لم يكن المستوطنون بلا نفوذ ولكن كان عليهم تقاسم هذا النفوذ مع مركب عسكري – أرستقراطي – صناعي غير ملتزم في المقام الأول بالحفاظ على امتيازات الفقراء البيض …
كان النظام المغربي يعمل بشكل أفضل من الجزائري ، لكنه لم يكن يشتغل على أكمل وجه،ففي مذكراته (ربما كتابه الأكثر الأهمية) يلاحظ بيرك بسخرية وبشيئ من المبالغة أن الفئتين الاجتماعيتين كانتا تلتقيان فقط في حي بوسبير (الحي المخصصQuartier Reservé الدرب الأحمر)، كان بيرك زائرًا منتظما للحي كما يخبرنا، وهو ينكر بشدة الفكرة القائلة بأن هذه الأماكن توفر فقط تبادلا للجنس مقابل المال، ويلمّح على العكس من ذلك إلى العمل الكلاسيكي لعالم الأنثروبولوجيا مارسيل موس Marcel Mauss (الهدية Le Don)، الذي يوضح دور التبادلات في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وهو يصر على أن ما حدث كان تبادلًا معقدًا واستيعابا وتبادلا للهدايا والهدايا المضادة. ولكن على الرغم من أن هذه اللعبة قد تكون مناسبة لجاك بيرك الشاب، إلا أن مسرحها كان أصغر من أن يمكن الحفاظ فيه على بقاء الطائفتين في حالة ودية دائمة. وعلى حد تعبير فرنسي آخر، على الرغم من أن غزو المغرب كان عمليّة سلب إلاّ أن حقيقة احتضان الطرفين لبعضهما البعض بحماس كان حقيقة واقعة.
وعندما لم يكن الموظف المدني المتمرن جاك بيرك مشتركا في حي بوسبير بشكل آخر ، كان منهمكا باعتباره مهندسا زراعيا في محاولات لتحسين الزراعة المغربية وأحوال الفلاحين، وقد أدى به الإفراط في الحماس-على سبيل العقاب- إلى عرض منصب المسؤول عن قبيلة سكساوة عليه، في امنتانوت في نهاية الدرب (في ذلك الوقت) بالأطلس الغربي الكبير . وقد أنتجت خمس سنوات من الإقامة بين أفراد القبيلة إلى إنجاز الكتاب الذي أسس شهرته العلمية، Les Structures Sociales du Haut Atlas البنيات الاجتماعية للأطلس الكبير 1955م .وعلى العكس من ذلك، أعلن أنه لم يكن المقصود بالعمل أن يكون جزءًا من علم الاجتماع السياسي رغم أن السياسة الأمازيغية هي العنصر الأكثر أهميّة في الكتاب الذي لايزال واحدا من أكثر الإثنوغرافيات شمولاً عن الأمازيغ.
لقد قادت التجربة الإدارية والإثنوغرافية لبيرك في آخر المطاف إلى اتجاه تبناه عدد قليل من الفرنسيين المولودين في شمال إفريقيا (أعلن كامو مثلا أنه سيظل مخلصًا لوالدته في حيها “باب الواد” الفقير في الجزائر العاصمة) أو تبناه الإداريون الاستعماريون: لقد كان موقفه لصالح الاستقلال. وما حدث أنّ “الإمبراطورية المحظوظة” في المغرب ظلّت محظوظة: فقد تم ضمان الاستقلال بعد صراع قصير ومنضبط نسبيًا، في حين لم يتم تأمين تحرير الجزائر إلا من خلال صراع دموي قاسٍ وطويل الأمد، وصادما لجميع من تورّطوا فيه، كما انتهى دون تقديم تنازلات، فقد غادر تقريبا المليون الأوروبي المحلي الجزائر طوعا أو من خلال الترهيب، وكان بيرك من القلائل الذين احتفظوا بصلات مع الجزائر الجديدة.
أصبح بيرك فيما بعد المنظر للعالم العربي الإسلامي بأسره، وحتى للعالم الثالث ككل. ومع ذلك، وعلى الرغم من كونه منظّرًا لرومانسية العالم الثالث، إلاّ أنه لم يحل محلّ “فرانتز فانون” مطلقا ، ولم تحظ أزماته الشخصية بنفس الاهتمام الذي حظيت به أزمات كامو ، على الرغم من حقيقة أنه انتهى إلى اليمين وأن انخراطه كان قائما على معرفة متفوقة بالحضارة المنافسة. (كان كامو مثلا نموذجيا من الأقدام السود من حيث أن السكان الأصليين يشكلون الستار الخلفي لروايته الطاعون ، لكن حياتهم الداخلية لم تساهم في المشهد)
وفي المقابل يطرح السؤال لماذا لم يتأقلم بيرك تمامًا مع اليسار؟ هل هو فشله في اجتياز الماركسية والفينومينولوجيا؟ يمكننا بصعوبة إلقاء اللوم على عدم وضوح تنظيراته ، والتي كانت بالكاد- من سارتر إلى لاكان ودريدا- عيبًا في اليسار.
في الواقع تعتبر المناطقية وإنهاء الاستعمار والجنس الموضوعات الثلاث المتشابكة في مذكرات بيرك اللافتة. وعلى عكس زميله الصحفي الجزائري المولد جان دانيال Jean Daniel، ناهيك عن كامو نفسه، لم يصبح بيرك مطلقًا يساريا كاملا على الرغم من كونه أستاذا في كوليج دو فرانس College de France.. ومن بين زملائه المستعربين ذهب ماكسيم رودنسون Maxime Rodinson إلى تأييد الاستقلال بطريقة أكثر تقليدية، أي بالأسلوب الماركسي، بينما اعتنق فينسينت مونتيل Vincent Monteil الإسلام، أما بيرك فانتهج طريقته الذاتية، فقد دفعته طبيعته العاطفية التي قادته إلى التفسير الماوسي لحي بوسبير إلى إعادة الزواج من سيدة إيطالية أرستقراطية في وقت لاحق من حياته. ويشكو بمرارة في مذكراته من ردة فعل الغاضبة على هذا الارتباط لعلماء المغرب العربي الليبراليين ولكن الوطنيين الذين كانت تربطه بهم صلات في زواجه الأوّل: كان من الممكن التسامح مع السُّكر أو الفجور، لكن ليس مع إنشاء منزل ثان! وبصفته أستاذا في علم الأخلاق كان بإمكانه رفض هذه القيم ، لكن كعالم اجتماع لم يكن من المفترض أن يفاجأ بهم.
أصبح بيرك الشاعر الميتافيزيقي لإنهاء الاستعمار باللغتين الفرنسية
والعربية، وعُرف عالميا على هذا النحو. ورفم اعتباره منظّرًا لمجتمع شمال إفريقيا، إلاّ أنّه ليس من
نفس طبقة إميل ماسكراي Emile Masqueray أو روبرت مونتاني Robert Montagne، ناهيك عن ابن خلدون: لقد كان
مغرما بالزخارف والمشادات المفاهيمية والكلامية ، ويفتقر إلى البساطة والصراحة، وكان
محاطا في زمنه بطلاب شمال إفريقيا المعجبين الذين قدم لهم الكثير من الحوافز
والدعم. وسيُذكر بسبب إثنوغرافيته ومشاركته في ذلك التحول العظيم لعالم شمال
إفريقيا الذي سعى جاهدًا لفهمه ومساعدته.
[1] “المملكة العربية” تعبير ظهر بداية من سنة 1860 ويقصد به جعل الجزائر مملكة عربية وتنصيب الأمير عبد القادر ملكا عليها نائبا عن نابليون الثالث امبراطور فرنسا( المترجمة).
[2] هو مصطلح ازدرائي يستخدم لوصف الشخص ضيق الذهن المناهض للفكر الذي يحتقر الفن والجمال,والروحانية و الفكر؛والأخلاق وغيرها (المترجمة)
[3] -كاجايووس Cagayous شخصيّة في حكايات ألفها “أوغست روبيني “، وأصبح تعبيرا عن إحدى التمثيلات الأوروبية المهمة في الجزائر وهي الأقدام السود