قصة قصيرة :: حسن المغربي
الجوّ غائم وجميل، نسائم الصبح باردة، الشمس تطل بخجل كأنها عروس في ليلة زفافها.
الجبال، الطيور، الأشجار المصطفة أمام البيوت، سرب النحل يحلق على الأزهار بطنينه الذي يشبه (سوناتات يوهان باخ) كل هذه الأشياء تعلن عن ميلاد يوم جديد.
في ذلك الصباح البارد عند شرفة المنزل المقابل للحي الجامعي، كان يشرب القهوة وهو ينصت إلى أغنية (الصبر جميل) للسيدة أم كلثوم، وفي لحظة ما، تناهى إليه دويّ المدافع وقذائف الآر بي جي، وخلال بضع دقائق تصاعد دخان كثيف بالأفق، أدرك في الحال أن جماعة الشبح بدؤوا في شنّ الغارات، حيث كان أولئك الظلاميون لا يتورعون عن مهاجمة الأماكن العامة ودُور العبادة التي تعج بالناس، كانوا حقا أشبه بالشياطين كما وصفهم شيخ البلد ذات يوم.
وضع فنجان القهوة على الطاولة، ودخل إلى البيت مسرعا، تناول السترة المعلقة على المشجب، لبس حذاءً عسكرياً، ملأ البندقية بالذخيرة، وانطلق بمحاذاة الطريق ولا يرى أمام عينيه في تلك الساعة سوى أشلاء والده المبعثرة على الإسفلت، وبينما كان يمشي صادف طفلة صغيرة تلعب بدمية أمام بيتها، ابتسم لها وقال: ادخلي، أمك تنادي!.
كان طوال الطريق يفكر بالانتقام من جماعة الشبح الذين قتلوا والده وهو يقود سيارته أثناء عودته من العمل في الأسابيع الماضية، لقد كان يجهل دوافع جريمة القتل، هل من أجل المال أم من أجل المنافسة على زعامة القرية أم من أجل دعم الثوار؟ لكن الشيء الوحيد الذي يعلمه هو أن الشبح وراء حادثة الاغتيال.
منذ عدة أشهر، سرت شائعة بين السكان مفادها أن القرية غنية بآبار النفط، والحكومة تعتزم في الأيام القليلة القادمة توقيع اتفاقية مع إحدى الشركات الأجنبية من أجل تصدير البترول إلى الخارج، كل هذه الأفكار دارت بخلده وهو يجري نحو العدو، وحينما وصل إلى بوابة القصر، لمح شاحنة كبيرة تجر سيارة عسكرية متجهة نحو المخازن، انتهز الفرصة وتسلل بين الشجر، وبينما كان يمشي والبندقية على ظهره، تذكر ما قامت به جماعة الشبح من قتل وتشريد.. تذكر حادثة اغتصاب ابنة الشيخ مسعود، وحرق مزرعة السيد إدريس ابن العمدة، وأخيرا، مقتل أبيه منذ بضعة أسابيع، هَمْهَم بكلمات بذيئة وقال في نفسه: يجب النيل منهم قبل غروب الشمس، قالها والدم يكاد ينفجر من رأسه.
لم تمضِ ساعة وهو ينظر إلى الحديقة حتى فوجئ بأعيان القرية أمام القصر، وما أن دعاهم الحارس حتى هرعوا جميعا إلى الداخل.. ما هذا؟ أنا لا أصدق؟ كبار القوم يقومون بزيارة الشبح في داره! يبدو أن الوضع في غاية الخطورة.
اقترب من المكان، وأخذ ينصت إليهم، الجميع يتحدث عن مشاكله الخاصة، لا أحد يجرؤ على السؤال عن دويّ المدافع أو الحرائق المشتغلة أو أنهار الدم التي أغرقت القرية.. علم ساعتها بأن أعيان البلدة أنفسهم لا مناص من القضاء عليهم وتصفيتهم واحداً تلو الآخر؛ لكن ثمة نداءٌ غريبٌ يردده بين الحين والحين يقول: لا تستعجل! اصبر! وعلى رأي أم كلثوم فإن الصبر جميل.
عاد إلى البيت، كان في حالة من الغضب، بدأ يذرع الغرفة ذهابا وجيئة، بطولها وعرضها، ويضرب المنضدة بيده، ويعض على شفتيه، يا إلهي! ماذا أفعل؟ أأغادر القرية أم ألتحق بالثوار؟ لكنه يأبى فكرة الفرار أو أية فكرة تضطره إلى استخدام السلاح ولو من أجل قضية عادلة..
وأخيراً، استسلم إلى ذلك النداء، وأخذ يردد دون أن يخفي القلق الذي بدا في لهجته: حتما، سيأتي الفرج من السماء، وتنعم القرية بالخير والأمان.