حذاء إسباني

حذاء إسباني

مَانْيَانَا.. مَانْيَانَا

قابلني رامون كعادته مُسندًا ظهره إلى كرسيّه الخشبيّ، سمعتُ خشخشة الرّاديو الصّغير الذي يظلُّ ملتصقًا بأذنيه في اللّيل، كان مرميًّا بجانبه، فوق منضدةٍ تكدّستْ عليها قواريرُ نبيذٍ وعلبُ تبغ ومرهمٌ ومطهّرُ جروح، لم يبرأ جرحه في فخذه بعدُ، ليس بالجرح الخطير كما قال، لكنّه يُسبّبُ له ألمًا عند النّوم. ضحك حين رآني ثمّ أغلق الرّاديو وهتف بي: «تعال يا مانويل، اجلسْ أمامي ».

حدّثَني عن آخر المستجدّات، فرغم خشخشة الرّاديو، استطاع التقاط الكثير من الأخبار، وقد كانت كلّ المحطّات تتسابقُ لتنقل ما يجري، مواجهات دامية في مدريد، قصف واشتعال نيران في مبانٍ رسميّة، اغتيال عسكريّين، فرانكو يتوعّد الجمهوريّين والشّيوعيّين، ملثّمون يرجمون القطارات بقطع الحديد، أطفال يهاجمون شاحنات المؤونة، طائرات هتلر تقصف الجسور، الأناركيّون يهرّبون المعتقلين من السّجون، اغتصاب موظّفات في مبنى حكوميّ، دخان يتعالى في منازل مسؤولين كبار، عصابات مجهولة تهرّبُ الأسلحة عبر البحر.

سألني بعد ذلك:

«متى ستخمدُ أصوات إطلاق النّار؟».

«لقد تعوّد النّاس على هذه الأصوات، الطّرقات والمنازل تعجُّ بالجثث والمصابين، ولا شيء غير الأنين والانتظار».

«الحياة جحيم، جحيم الجوع والسّرقة والخطف والتّهريب. ولا أحد سيدفع الثّمن غيرنا، نحن حطب الحرب».

«ماذا تنتظرُ من حرب احتشدتْ فيها دول كثيرة؟ لكنّي آمل صمود مدريد».

«وإن سقطتْ؟».

«سنسقطُ جميعًا، جميعًا يا رامون».

أزاح شعره عن عينيه وحرّك قهوته ثمّ تابع:

«في هذه الرّوائح العفنة علينا أن ننتظر الأسوأ. حسنًا، لنتحدّث في أمر آخر. عليك أن تحسم الأمر حتّى لا تتلقّى ضربةً على رأسك وأنت منكمشٌ في غرفتك. ما الذي يجعلك تتردّدُ، ها؟ تقدّمْ خطوة يا رجل، لوسيا تُحبّك، ألا تفهم؟ أنا أيضًا حسمتُ الأمر ولن أدع بريثيوسا تُخرج كيس القمامة، أجل، بريثيوسا شدّتْ ذراعي وهي تسألني: لماذا تكتفي بالتحديق في عينيّ، لماذا تكتفي بذلك يا عزيزي رامون؟».

حين عُدتُ إلى غُرفتي فكّرتُ طويلًا فيما طلبه منّي صديقي البحّار، ثمّ رسمتُ المشهد في خيالي، سأقفُ أمام لوسيا مُقطّب الجبين وبعد فراغ صبرها سأرفعُ يدي بالتحيّة ثمّ أنحني أمامها حتّى تُوافق على أن تكون زوجتي، وبعد ذلك سأقترح عليها مرافقتي في رحلة الفرار. أعرفُ أنّ قراري مجنون، لكنّه أراح رأسي على الأقلّ، ولن يكون أمام لوسيا وقت للتّفكير ولا للثّرثرة، يجب أن تقبل على الفور وتحزم أمتعةً خفيفةً وتستعدّ للسّفر في سويعاتٍ.

في اليوم التّالي وصلتُ إلى الوكالة قبل مغيب الشّمس ولم تستقبلني «بيتا» مثل عادتها، رأيتُ بعض القطط قرب صندوق القمامة، كانت تتصارعُ على بقايا سمك. لا أدري لماذا أحسستُ في خضمّ ذلك الصّراع المحموم أنّ في عينيها ومخالبها ذعرًا، ليس ذعر الجوع فحسب، كان ذعرًا آخر لم أفهمه. سمعتُ أنّ القطط والكلاب تتنبّأُ بما سيحدثُ فأشاع ما رأيتُه شعورًا بالرّعب في داخلي. اعترضني قطّ أسود في أسفل السلّم، كان مقرورًا، أمال رأسه نحوي وأنا أصعدُ الدّرجات ثمّ تسلّل إلى الخارج. لأوّل مرّة يُخيفني الصّمت الأخرس في السلّم الإسمنتيّ الضيّق، وفي الحقيقة كنت مشمئزًّا من فم القطّ المعوجّ. انتبهتُ إلى «بيتا» أمام شقّة لوسيا، لكنّها لم تقفزْ صوبي لتتمسّح بقدميّ، بل إنّها لم تتحرّكْ، اقتربتُ منها، كانت هامدةً وفروها مثقوب برصاصةٍ في مستوى الظّهر. خفق قلبي وأنا أتسلّلُ إلى شقّة لوسيا، بدا الصّالون الصّغير مُظلمًا، ومع ذلك استطعتُ رؤية لوسيا غارقةً في أريكتها الخشبيّة. كانت عارية تمامًا وليس من عادتها أن تفعل ذلك، ومن الخارج كانت تتسلّل بهرة ضوءٍ، فاستطعتُ أن ألمح عينيها المفتوحتين والجامدتين وسط الأثاث المبعثر. كانت آلة الخياطة مهشّمةً ومرميّةً قريبًا من غرفة النّوم، وعلى الأرضيّة كان كلّ شيء متناثرًا، أزرار، دبابيس، إبر، وكانت دمية القياس مرميّةً على طبق العدس. تعرّق جبيني وأنا أقتربُ منها، حدّقتُ في بقع الدم التي رسمتْ ممرًّا من غرفة الصّالون إلى غرفة النّوم. مسكتُ يد لوسيا، وجدتُها جامدةً وهي تُمسك بالصّليب الفضّيّ، الصّليب الذي كان يتلألأ على صدرها، كيف سقط؟ انتبهتُ إلى بقع دم صغيرة في أنفها وفمها، مسكتُها من ذراعيها فرأيت آثار الرّصاصة الّتي اخترقتْ جنبها الأيسر، وانتبهتُ إلى رصاصةٍ أخرى في الظّهر. كان جسد لوسيا باردًا، وعيناها الزّائغتان تحدّقان في الفراغ بكآبةٍ وذعرٍ.

هل كنتُ أبكي في تلك اللّحظات؟ أم كنتُ ألهثُ وأرتعش؟ لا أتذكّر، لا أتذكّر. ترنّحتْ غرفة الصّالون في عينيّ، أطلّ القطّ ذو الفم المعوجّ برأسه ثمّ اختفى، وحدستُ أنّ الأسوأ ينتظرني. كتمتُ أنفاسي وركضتُ صوب شقّة رامون، كانتْ مظلمةً هي أيضًا، خمّنتُ أنّه في البار مع رفاقه البحّارة كالعادة. لم يكن أمامي متّسعٌ من الوقت لأنجو، فتحتُ نافذة الصّالون على مصراعيها وقفزتُ على أحد الأسطح لأعبر إلى زقاق خلفيّ. في تلك اللّحظة انفتحتْ نافذة غرفتي وبدأت طلقات الرّصاص تضجّ في أذنيّ حتّى ظننتُ أنّ إحداها قد اخترقتْ ظهري، وفي التفاتتي الخاطفة لم أستطعْ التقاط ملامح الوجه الّذي كان يُصوّب مسدّسه نحوي.

*المصدر: رواية “حذاء إسباني” بإذن من المؤلف/ محمد عيسى المؤدب. مسكيلياني للنّشر والتّوزيع 2020، تونس.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :