- أ / علي ضوء الشريف
المتابع لنشأة الوثائق الدستورية في ليبيا يجد أنها ليست حديثة العهد ، فحركة التدوين الدستوري في ليبيا قديمة جداً ؛ لهذا فإن قراءتنا لهذه الوثائق تتطلب منا إعمال مسح شامل لها ، ولا نعتقد أن هذا المسح سيشمل كافة الوثائق الدستورية المقصودة ، فالمنطقة حكمت من أطراف عديدة قد لا نقتفي جل آثارها كما عليه الحال لتاريخ حكم المملكة الديدية في القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، فعلى الرغم من تعريج بعض المصادر التاريخية على هذه الحقبة ؛ إلا أنها لم تَفِ لنا في تعاريجها على جزئيات محل دراستنا بشكل واضح ؛ لهذا السبب ستكون هذه المرحلة التاريخية خارجة عن قراءتنا المسحية التي ستنحصر على الوثائق المتوفرة لدينا ، وسنتناول هذه القراءة في ثمان مراحل دستورية نتعرض لكل واحدة منها على حدة وفق التالي : المَرْحَلةُ الأولَى / دُسْتُورُ قُوِريِنَا الْأوّل : هذا الدستور هو قراءة استيحائية ، تجد أساسها في الكتاب الرابع لهيرودوت وكذلك النقش الذي عثر عليه في قورينا المعروف بلوحة المؤسسين ؛ المؤرخة في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد (1) ، وقد خلصت هذه القراءة لهذا الدستور على خمسة نقاط رئيسية ، تعلقت بحقوق المواطنة والتنظيم العام لمكونات قورينا السياسية والاجتماعية . المَرْحَلَةُ الثّانِيَةُ / دُسْتُورُ المُشَرّعِ الْأفْرِيقِيّ “دِيمُونَاكِس” : جاء دستور ديموناكس نتيجة الخلافات وحالة الصراع التي نشبت بين الملك أركيسيلان وإخوته في العام 570 ق م (2) ، والتي نتج عنها خروج الإخوة من مدينة قورينا إلى مدينة برقة ( المرج اليوم) ، وما لبث أن اندلعت حالة الصراع بينهم من جديد بدعم من القبائل الليبية المغتصبة أراضيها لصالح المهاجرين الإغريق ، وقد دفعت حالة الصراع بأهالي قورينا إلى طلب النصح من مهبط الوحي في دلفى والذي أشار إليهم باستدعاء مشرع من مدينة منتينيا بأركاديا يدعى ديموناكس demonax ، ولم يعتبر دستور ديموناكس دستورا تأسيسيا بقدر ما هو امتداد لدستور قورينا الأول ، بحكم كونه قام بعملية إصلاحية للتنظيم السياسي العام للمجتمع الإغريقي في قورينا ، وقد تلخصت هذه الإصلاحات على ثلاثة جوانب : (3) الأولى / ما تعلق بتنظيم المهاجرين من خلال التوزيع الجغرافي بقدر يضمن فيه توازن المصالح المجتمعية . الثانية / تقييد سلطات الملك ، وقصرها على صلاحية الإشراف على المواقع الدينية المقدسة . الثالثة / توزيع ما تبقى من الصلاحيات السلطوية على المواطنين ، وبالتحديد الأرستقراطيين المتمثلين في إخوة الملك . المَرْحَلَةُ الثّالِثَةُ / دُسْتُورُ بَرْقَةَ الدّيمُقْرَاطِيّ القَدِيمِ : استُقِيَ محتوى هذا الدستور من مصادر ثلاث : الأول- الدستور البطلمي الذي خَـلَـفَ هذه المرحلة. الثاني – من ديودوروس الصقلي. أما الثالث- من كتاب السياسة لأرسطو ، ودستور برقة الديمقراطي يعكس مرحلة جديدة مختلفة عن تلك المحكومة بدستور ديموناكس ، وما يؤكد ذلك هو طبيعة تقسيم المكونات السياسية والاجتماعية على أسس مختلفة عن ما سبق ، وبما يماثل ذلك التقسيم القائم بأثينا . وقد كان هذا الدستور ثمرة ثورة الديمقراطية التي اندلعت بقورينا عام 401 ق م بين الحكومة الأوليجاركية التي تمثل الطبقة الأرستقراطية ، وما بين الديمقراطيين الذين يمثلون طبقة البروليتاريا ( الطبقة الكادحة الفقيرة ) ، وقد انتهى الأمر بعد هذه الثورة إلى الحزب الديمقراطي الذي شرع بتأسيس نظام دستوري خَلَفَ ذلك النظام الموضوع من المشرع الإغريقي ديموناكس ، ولم ينتهِ الأمر عند هذا الحد ، فقد شهد العام 322 ق م انتفاضة للأوليجاركية ، ونجحوا على إثرها بإزاحة الديمقراطيين من سدة الحكم ، ولكن لم يدم هذا الأمر طويلا ، فقد استطاع الديمقراطيون من العودة للحكم في نفس العام ، وفر على إثرها الأوليجاركية إلى ناحيتين ، الأولى تمثلت في الجهة التي يحكمها القائد ثيرون الذي كانت لديه رغبة عارمة بغزو قورينا وإخراج الديمقراطيين منها ، أما الثانية فقد تمثلت في الجهة التي يحكمها بطليموس والي مصر والذي استغل الوضع بعد ذلك بغزو قورينا ، وقد تحقق له ما أرداد ؛ فانتهى الأمر إليه في نفس العام ، وانتهت على إثر ذلك مرحلة الدستور الديمقراطي (4) . ولم يبين المصدر محتوى نصوص هذا الدستور بوضوح ، وما برز لنا أن هذا الدستور قد ركز على موضوعات مماثلة لدستور ديموناكس ؛ خاصة فيما تعلق بجزئية تقسيم المكونات السياسية للمجتمع القوريني وما ارتبط بذلك من حقوق ، وخلا هذا المصدر من ملامح تنظيم السلطة العامة في إطار هذه المرحلة . المَرْحَلةُ الرّابِعَةُ / الدّسْتُورُ البَطْلَمِيّ : يجد دستور البطالمة أساسه في وثيقة منقوشة على لوحة من الرخام محفوظة في متحف شحات ، وتتضمن هذه الوثيقة وصفا لدستور قورينا ، ومقدمة النقش غير موجودة ، أما القسم الأخير منه مختلط وغير واضح ، وقد تكون هذا الدستور من خمسة عشر مادة (5) ، والملاحظ على هذه المواد الدستورية أنها جاءت بصيغة أكثر تطورا ، فقد عالجت موضوعات عدة منها : “الجنسية القورينية” وكذلك السلطة التشريعية في غرفتيها الشورى (البولو) والشيوخ ، بالإضافة إلى السلطة القضائية والتي كان على رأسها القائد بطليموس والي مصر وبرقة ، ومن ضمن ملامح التطور في هذه الوثيقة الدستورية هو ما جاءت به المادة الثامنة منه والتي نصت على أنه (( وتستمر القوانين السابقة ، إذا لم تكن تتعارض مع الدستور الحالي ……)) (6) ، وبالنظر في محتوى هذه المادة يتراءى لنا أن هذه الوثيقة الدستورية هي الأولى في مسألة “التأكيد” على علوية الدستور على باقي التشريعات ؛ وإن كان النص الدستوري وفق الفقه المعاصر لا يحتاج إلى تأكيد على عُـلُـوِّهِ . المَرْحَلَةُ الخَامِسَةُ / الدّسْتُورُ العُثْمَانِيّ (7) : صدر هذا الدستور زمن السلطان عبد الحميد الثاني ، أول السلاطين الدستوريين للإمبراطورية العثمانية ؛ بكونه استمد شرعيته من هذا الدستور العصري الأول في كتابته
على الطريقة الأوروبية من حيث التنظيم والتبويب والمحتوى ، وقد وافق على إصداره نظراً للحاجة العامة إليه (8) ، واحتوى هذا الدستور على 119 مادة ، وتم إصداره تحت مسمى “القانون الأساسي” وذلك في 19 من ديسمبر سنة 1876م ، واعتبرناه دستوراً وطنياً لكون وقوع ليبيا في تلك الحقبة تحت سلطة الباب العالي ، فيسري عليها ما يسري على كافة الأقطار الواقعة تحت السلطات العثمانية . المَرْحَلَةُ السّادِسَةُ / وَثِيقَةُ إعْلَانِ الجُمْهُورِيّة الطّرَابُلُسِيّة : صدرت هذه الوثيقة الدستورية في 16 نوفمبر من العام 1918م ، ولم تعكس هذه الوثيقة حالة طبيعية للوطن في تلك الفترة ، وقد ارتبط الهدف من إصدارها بفكرة ترسيخ الاستقلال الوطني عن الاستعمار ، لهذا فقد كانت مقتضبة خالية من التفاصيل القانونية ، بل إنها لم ترْقَ إلى مستوى الإعلان الدستوري في تفاصيله وتقسيماته المعاصرة ، وهذا ما يؤكده نصها الذي أشار إلى التالي : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي الساعة الرابعة والنصف من يوم السبت المبارك ، الثالث عشر من شهر صفر 1337ه ، قررت الأمة الطرابلسية تتويج استقلالها بإعلان حكومتها الجمهورية باتفاق آراء علمائها الأجلاّء وأشرافها وأعيانها ورؤساء المجاهدين المحترمين الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد وقد تمّ انتخاب أعضاء مجلس الشورى الطرابلسي، وانتخب أعضاء مجلس الجمهورية وافتتح أعماله تبلغ إعلان الجمهورية إلى الدول الكبرى وإلى الدولة الإيطالية . إن الأمة الطرابلسية تعتبر نفسها حائزة لاستقلالها الذي اكتسبته بدماء أبنائها وقوتها منذ سبع سنين ، وسعيد بالوصول إلى هذه الغاية التي هي أشرف ما تصل إليه الأمم ، وتهنئ أبناءها بتمام نجاحها ، واتحادهم على الثبات التام في الدفاع عن وطنهم وحكومتهم الجمهورية الجديدة ( والتوفيق بيد الله وحده وتعالى ) 13 صفر سنة 1337ه ، (( سليمان الباروني- أحمد المريض – رمضان الشتيوي – عبد النبي بلخير )) (9) . المَرْحَلَةُ السّابِعَةُ / القَانُونُ الأسَاسِيّ لِلْقُطْرَيْنِ الطّرَابُلُسِيّ وَالبَرْقَاوِيّ : صدر هذا القانون في يونيو 1919م ، وقد جاء هذا القانون في ظل تصاعد القوى الوطنية الليبية نظير ضعف القوة الاستعمارية الإيطالية ، وقد اعتبر هذا القانون إجهاضا لمشروع الجمهورية الطرابلسية ، بالإضافة إلى كونه برنامجا قصد به كسب الوقت من قبل المستعمر لاستجماع قواه (10) ، وقد احتوى هذا القانون الدستوري على سبعة أبواب ، عكس من خلالها تطورا قليلا في التنظيم البنيوي السياسي للدولة من خلال استحداث مجلس للأعيان وإقراره للعديد من الحقوق الخاصة . المَرْحَلَةُ الثّامِنَةُ / دُسْتُورُ وِلَايَةِ بَرْقَة 1949م (11) : تعتبر هذه المرحلة هي آخر مراحل التدوين الدستوري ما قبل الاستقلال ، وقد صدر هذا الدستور في 18 سبتمبر من العام 1949م ، شمل 6 فصول رئيسة و68 مادة ، وتميز هذا الدستور بصياغته العصرية من حيث التنظيم والتبويب والمحتوى . الــهـــوامـــش : 1- د. مصطفى كمال عبدالعليم ، دراسات في تاريخ ليبيا القديم ، منشورات الجامعة الليبية ، المطبعة الأهلية بنغازي ، يناير 1966م ، ص 123 . 2- إن ثبت صحة ودقة هذا التاريخ فإن تأريخ لوحة المؤسسين والتي تعتبر أحد مصادر دستور قورينا الأول إلى منتصف القرن الرابع قبل الميلاد يكون غير صحيح أو أن تكون لوحة المؤسسين جاءت متأخرة على إصدارها والعمل بها ، أما إذا كانت لوحة المؤسسين مؤرخة تأريخاً دقيقاً وواضحاً فإن “تقديم” الدكتور مصطفى كمال عبد العليم لدستور قورينا الأول على دستور المشرع الأفريقي ديموناكس في إطار سرده التاريخي للوثائق الدستورية لليبيا “غير صحيح” . 3- د. مصطفى كمال عبدالعليم ، المرجع السابق ، ص 128 . 4- د . مصطفى كمال عبدالعليم ، المرجع السابق ، ص 137 – 138 . 5- د . مصطفى كمال عبدالعليم ، المرجع السابق ، ص 138 . 6- د . مصطفى كمال عبدالعليم ، المرجع السابق ، ص 140 . 7- سليم فارس الشدياق ، كنز الرغائب في منتخبات الجوائب ، مطبعة الجوائب بالأستانة سنه 1916م ، ج 6 ، ص 5 ـ 27 . 8- عمر عبدالعزيز عمر ، تاريخ المشرق العربي ( 1516-1922 ) ، دار النهضة العربية – بيروت ، بلا تاريخ ـ ص 280 . 9- الطاهر أحمد الزاوي ، جهاد الأبطال ، الناشر دار ق المحدودة ، لندن ، المملكة المتحدة ، 1984م ، ص 326 . 10- الطاهر أحمد الزاوي ، جهاد الأبطال ، نفس المرجع ، ، ص 254 . 11- جريدة برقة الرسمية ، العدد 1 ، بتاريخ 1 من أكتوبر 1949م ، راجع عبد السلام محمد المسماري المحامي ، ليبيا والحاجة إلى دستور ، مقال منشور على موقع الشفافية ليبيا.