حنين

حنين

بقلم :: نجوى التوهامي 

بالأمس وصلتني تمورٌ من بلادي، أبهجتْ روحي … كان مذاقُها كالسحرِ الذي أرسلني
إلى ذاك اليوم….
حينما أحضرَ أبي فسائلَ لغرسها في مزرعتنا، حفرَ عند مجلسِ الشمسِ، و ناداني..
قال: “هذه لكِ، هيا سمِّ.. سمِّ باسم الله وثبّتيها في مكانها، وادعِ. إنها الباسقات ذات الطلع النضيد، تمائمُ المكان، ورقْياتِه”.
تساءلتُ، وأنا أضعُ الوليدةَ الجديدة في حوضها، وأسدلُ على جوانبها التراب، بماذا ياتراني سأدعو، وهل ثمة شيء يدعونا للدعاء ونحن نمتلك الفرح كله؟ ولكنني دعوت.
دعوتُ ألاّ يهجرنا الأحبة،
وألاّ تستوطننا الغربة،
وألاّينهش الزمنُ من مائدةِ وطننا المَرْيَمِيَّة.
دعوتُ ألاّ يموتُ أبي، وأن تمدَّ هذه الفسيلة عنقها وتكبر لتقبّلَ وجه السماء، وتباركها الملائكة.
ولكن… مات أبي، وفارقنا الأحبة، وتشرَّدَ الوطن، وسرقَ أبناء عمي نصف المزرعة، وغادرتُ أنا المزرعةَ والوطن.
ولولا أن أمي كانت تجلسُ تحت النخلةِ تبكي كل مساء، وتردد: “أنتِ تميمة المكان، فليبارككِ الله” لتيبَّسَ رحمُ النخلة، وجفت.
كانت أمي كلما ركنَ الافتقادُ تحت عينيها، وتبعثر تحت ردائها الحنين خرجتْ إلى المزرعة تشمُّ خطواتَ أبي في التربة المبلولة.
لازلتُ أذكر حينما كانت تلومُه دائماً كلما خرج للمزرعة حافياً قائلة:
“يا راجل ألبس حاجة في رجليك” كان يرد بابتسامة مكابر خافتة، وهو يجر بطن رجله على الأرض ماسحاً شوكة صغيرة علقت بقدمه: “خرّفي…لا شيء هنا يستوجب أن يفصلَ التراب عن قدمي”
آآآه…، لو كانت الأماكن تتحدث معنا ونحن نبحث فيها عن أحبتنا الغائبين لتصدّعت جدرانها وغصّت بالبكاء.
أشياء كثيرة تفزعُني حينما أركنُ لوحدتي؛
لن نستردّ نصف مزرعتنا المسروق…
لن يثمر في حقلنا الدرّاق الذي مات، ولن تعود رائحةُ الدخانِ التي تندسُّ في ثيابنا بعد كل جلسةِ شايٍّ على الحطب،
ولن تكبرَ الظلالُ التي كنا نحسبُ أنها ستخرجُ للّعب معنا ليلا.
منذ أيام هاتفتني أمي، جاءني صوتُها واهناً حزيناً رغم أنها كانت تداري عبرتها ككل مرة تبثّني فيها اشتياقها لي، فقالت وهي تجيب عن سؤالاتي الملهوفة: “لاتقلقي يا ابنتي، كلنا بخير..أنا، اخواتك، البيت، المزرعة، الجيران ..كلنا كلنا بخير، حتى نخلتك بسلام، وأردفت برعشة باكية في صوتها، البارحة سقطت قذيفة في المزرعة، لاتخافي، بعيدا..بعيدا عن البيت، لكن الله قدّر ولطف لم نُصب بأضرار، أظن أنه للنخيل تمائم ورُقْيات”
قاطعتها بغصة حارة قبل أن أهرب لزرّ القفل، وأوقف سيل الحزن الذي وصلني منها قائلة: فليحفظكم الله يا أمي لاتخافي فقد قال لي ذلك أبي ذات يوم وأنا أثبّت معه تلك الفسيلة في الأرض: “النخيلُ تمائمُ المكانِ، ورُقْياتِهِ”

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :