- أ / المهدي يوسف كاجيجي
في الخمسينات من القرن الماضي، كانت السيارة المرسيدس بلونها الأسود رمز الوجاهة ومظهرا للثراء والسيارة المعتمدة لتنقلات كبار رجال الدولة، وبسقوط النظام الملكي اختفت من المشهد العام. ويؤكد العارفون ببواطن الأمور أن السبب كراهية قادة النظام الجديد لهذا النوع من السيارات، على اعتبار أنها إحدى مظاهر العهد المباد، أطلق عليها وقتها ” عقدة المرسيدس ” . وترتب على ذلك التخلص منها وبيعها بثمن بخس ، وتهريب معظمها لخارج البلاد حتى السيارة الخاصة بالملك إدريس موديل 600 تم إهداؤها لرئيس النيجر هاماني ديوري، وتم نقلها بطائرة شحن عسكرية، تابعة للجيش الليبي ويقال إن الطائرة العسكرية من نوع C130 عادت بشحنة من الخراف المذبوحة، ردا على الهدية. حكاية المرسيدس ل/ط -34521 أنها سيارة السيد محمود المنتصر رحمه الله، أول رئيس وزراء بعد الاستقلال، اشتراها من ماله الخاص عندما كان سفيرا في روما، وعاد بها عند استدعائه لتشكيل حكومته الثانية بعد اعتقاله ورحيله تعرض مستعملو السيارة من الأسرة للملاحقة والتتبع، من قبل عناصر أمنية، وتعرضها لأكثر من مرة لحوادث اصطدام مفتعلة، فقامت الأسرة بتخزينها لمدة طويلة، ولتعذر البيع، قررت الأسرة شحنها إلى إيطاليا، بحجة الصيانه ولتواجد واحد من الأبناء في مدينة ميلانو.كان الاستعمال محدودا جدا وظلت في التخزين ،في سنة 1991 تعرض الابن السيد عبدالسلام محمود المنتصر رحمه الله لحادث أليم خلال زيارته لطرابلس مما اضطر أرملته لعرض السيارة للبيع. محسن محمد الطمزيني في الستينات من القرن الماضي، حضر إلى مكاتب جريدة الحرية شاب بدين خجول، قدم نفسه كمخرج سينمائي، وأهدانا شريطا وثائقيا من إخراجه وإنتاجه عن مدينة لبدة الأثرية واشتكى بمرارة من تجاهل الإعلام في بلده فأجرينا حواراً معه، نشر على صفحات الجريدة ،منذ ذلك التاريخ ارتبطنا أنا ومحسن محمد الطمزيني بعلاقة صداقة،تواصلت حتًى يوم رحيله في ربيع العام 2011 . كنت فيها واحدا من الشهود على رحلة نجاح لفنان مبدع ، بدأت بانتقاله إلى روما للعمل كأجير بمدينة السينما “شينا تشيتاه ” وامتدت إلى تأسيسه “زيني للإنتاج السينمائي ” وامتدت أعماله إلى نشاطات إبداعية مختلفة ، ولكن السينما والصورة ظلت عشقه الدائم . كان من أنجح وأهم أعماله المسح التصويري لكل مناطق ليبيا التاريخية والطبيعية، التي كان من نتاجها نشره لسلسلة من المطبوعات المصورة عن ليبيا، توجها بإصدار كتابه المصور البديع ” ليبيا الميراث ” . موسوعة مصورة عن ليبيا قدم له بقوله: [ هذا الكتاب هو تكريم لبلد وشعب وحضارة، تركت للبشرية ميراثا لكنًوز لا تقدر بثمن، إنه ليبيا .. ميراثي.] كان محبا للحياة، وبالرغم من إصابته بمرض السكر مبكرا، وما تبع ذلك من مشاكل، من أسوئها ضعف النظر، ولكنه ظل مقاتلا شرسا، وفنانا مبدعا، حمل في جنباته قلب طفل. كرمه العالم وحصلت أعماله الفنية على كثير من الجوائز، وتجاهله وطنه. رحمه الله. برفقة المالك الثاني والعودة اشترى محسن الطمزيني السيارة، وكان يعرف جيدا قيمتها، من الناحية السياسية والتاريخية إلى جانب القيمة العمرية ما يطلق عليه ( الأنتيك ) ومن المعروف أن هذا النوع من السيارات في العالم المتحضر له عشاقه، وهو واحد منهم. وبرفقته انطلقت السيارة للتنزه عبر مناطق ” الدولتشي فيتا” في العاصمة الإيطالية، مثل فيا فينتو، وبلازا دي إسبانيا.. والبوبلو ..ونافونا، ترمقها نظرات الإعجاب، وتلتقط بجوارها الصور التذكارية. وامتدت الجولات إلى صقليا وسردينيا في الجنوب الإيطالي، والريفير الفرنسية، ومدينة كان ومهرجانها السينمائي. في ربيع 2011 رحل محسن الطمزيني عن دنيانا، وتوالت عروض الشراء على العائلة، ونجح صديق مشترك في الوصول إلى اتفاق، بعودة السيارة إلى حضانة أسرة المالك الأول السيد محمود المنتصر وبالرغم من عروض الشراء المغرية أصرت الأسرة على إعادتها إلى أرض الوطن. في ميناء نابولي في إيطاليا جرت ترتيبات الشحن، ضمن بروتوكول خاص لهذا النوع من التحف، وبحضور ممثل شركة التأمين، وخبير تحف مثمن، ومندوبين عن الجهات المسؤولة، للتأكد من توفر الضمانات الكاملة، لشحن آمن عالي التكلفة . في ميناء الوصول الليبي وفي مدينة الخمس ، وصلت السيارة المرسيدس ل / ط 34521 ضمن شحنة من السيارات المستعملة، ومجموعة من الحاويات لبضائع مختلفة، لم يعرها أحد أي اهتمام، وتم تقييمها كبضاعة خردة واعتبروا أن تكلفة شحنها أعلى من قيمتها السوقية، وعلق أحد الحاضرين ضاحكا: على الأقل لن يطمع أحد في سرقتها . وانتهت الحكاية.