خليل حاوي / المشروع الشعري المخذول

خليل حاوي / المشروع الشعري المخذول

الشاعر أحمد ناصر قرين

الشاعر :: أحمد ناصر قرين

مرةً سُئل أحد المخرجين الكبار, ووأظنه صلاح أبوسيف :-هل لدينا فن تمثيل راقٍ ؟

فأجاب:- عندما تصير سناء جميل نجمة شبّاك !!.

أنا أيضاً لن أطمئن على ذوقنا الشعري, وعلى حسِّنا الجمالي, حتي يصير خليل حاوي بشهرة نزار قباني أو عبدالوهاب البياتي أو نازك الملائكة .

هذه ربما محاولة للولوج الى عالم شعري مختلف عما ألفناه, وعما رسخته الشعرية العربية . وبدايةً لا بد من نبذة تعريفية سريعة بسيرة الشاعر .

كما يورد شقيقه الناقد إيليا الحاوي, فقد ولد خليل في اليوم ماقبل الأخير من عام 1919, في حوران, حيث هاجرت خلال الحرب العالمية الأولى , الكثير من العائلات الشويرية, الى هناك, ومن بينها والده سليم خليل الحاوي. الذي كان يعمل في البناء, كما هي عادة الشويريين . وبعد عدة أشهر عادت أسرته الى بلدته الشوير بجبل لبنان . حيث قضى طفولته الأولى, وتعلم في مدارس البلدة .

و لأنه الولد البكر لوالديه فقد أضطر لترك الدراسة وهو في سن الثانية عشر, ليعمل أسكافياً وعامل بناء . عاد الى الدراسة بعدها سنوات حتى نال درجة الماجستير من الجامعة الأمريكية ببيروت, ثم أوفد لنيل الدكتوراه من جامعة كامبردج, فتحصل عليها برسالته عن جبران خليل جبران في إطاره الحضاري . وعند عودنه, صار أستاذاً لمادة النقد المقارن بالجامعة حتى وفاته يوم 7/6/1982 , حيث أطلق الرصاص على نفسه في شرفة بيته عند دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت .

انضم في شبابه الأول الى الحزب القومي السوري . وترك الحزب بعد عدة سنوات . مما ترك في نفسه فراغاً كبيراً, حاول أن يملأه بانتماء أوسع .

 لذا..لم تكن صلته بالعروبة سياسية مرتبطة بنظام ما أو حزب أو دولة أو فئة, بل كانت حالة ثقافية حضارية . كانت فعل وجود ضد أفعال الزمن والعدم . فقد أدرك منذ البداية أن مهمة لبنان أن يكون نافذة تنقل للمنطقة كلها حضارة العالم, وتطل منها المنطقة كلها على العالم الأوسع  وأن لبنان لا يتفتح ويزهر إلا في محيطه وبه ومنه, كما كان الحال مع اليازجيين وآل الشدياق وآل البستاني والمعلوف ورواد النهضة الأولى في بواكيرها .

خليل حاوي شاعر شامخ, صعب المراس . ولعله الوحيد الذي يمتلك مشروعاً شعرياً متكاملاً راسخاً واضح الملامح . مشروعاً أصيلاً وليس مستعاراً .وقد تبدى هذا المشروع متماسكاً منذ بداياته,منذ مجموعته الأولى (نهر الرماد). بدأ مشروعه الشعري واثقاً وعميقاً . حيث أوغل بنا في عوالم الحراب والعقم وكهوف الجليد والموت, ليعود ويلملم لنا من هذا الركام حياةً جديدةً وإنساناً جديداً متوسلاً أعراس الحصاد وأفراح القرية التي عبرت من كهوف الشرق, من هذا المستنقع الآسن الى الشرق الجديد المتجدد :-

وكفاني أن لي أطفالُ أترابي

ولي في حبهم خمرٌ وزاد .

من حصاد الحقل عندي ما كفاني

وكفاني أن لي عيد الحصاد أن لي عيدٌ وعيد ْ

كلما ضوّأ في القريةِ مصباحٌ جديد ْ ….

يعبرون الجسر في الصبح خفافاً

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد

من كهوف الشرق, من مستنقع الشرق

الى الشرق الجديد

أضلعي امتدت لهم جسراً وطيد .

هكذا عبر النسل الجديد,الذي خلقه الشاعر من معدن الفولاذ سمراً ورياحيناً طوال, نحو حياة تليق بكرامة الانسان, هذا النسل الذي تعهده الشاعر بالعناية والرعاية والتنقية من شوائب التاريخ ولعنة القرون المتتالية من الركود والتواكل .

وقد مرت عملية التطهر والاغتسال من الخطايا بسلسلة طويلة من صدمات الوعي, حتى أنتج لا وعيه علاقات مترابطة بين الأسباب والنتائج بشكل صور تنفذ مباشرة للب التساؤل المطلوب ايجاد أجوبة ممكنة له .

هذا ماصاغه الشاعر في قصيدة عودة الى سدوم والتي يستمدعنوان المجموعة نهر الرماد منها :-

عدت في عينيّ طوفان من البرق ِ

ومن رعد الجبال الشاهقة .

عدت بالنار التي من أجلها

عرضّت ُ صدري عارياً للصاعقة .

جرفت ذاكرتي النارُ وأمسى

كل أمسي فيك يا نهر ِ الرماد ْ:

صلواتي سفر أيوبٍ . وحبّي

دمع ليلى, خاتم من شهرزاد

فيك يا نهر الرماد …..

وليمت من مات بالنار ِ

حملت النار َ للفندق ِ. للبيت ِ المخرّب ْ

فيه أطمار ُ أبي, عكازُهُ

ويضيء البيت َ خفاش ٌ مذهّب ْ

دونه يخشع أهلي, إخوتي ..

نسل ُ السبايا

خلّفتْهُم غزوات ُ الشرق والغرب ِ

لصوصا ً وبغايا

خِرقاً, مِمسحة ً في فندق ِالشرق ِ الكبير,

بنتهم تستمريءُ الناب َالذي يُغرزُ في البضّ ِ الحريرْ

وليكن ناب خصيّ ,

إن يكن ناب أمير ْ

لم يزل شاعرهم ينسل من جيب ٍ لجيب ٍ

خلف دينار ٍ صغير ْ

ثم يزهو , يتشهى , يستعيرْ

لصرير ِ الفأر ِ في أمعائِه

من ضميري صوت َ عملاق ِ الضمير ْ……

…………….

فليمت من مات بالنار وبالطوفان ِ

لن أبكيك يا نسلَ سدوم ْ

لن تموتَ الأرض ُ إن مُتّم ..

لها بعل ٌ إلهي ٌ قديم ْ…..

 ما الذي أبقتْ عليه النار ُ ,

من بيتي , وأتعابي , ومن تاريخ ِ عمري ؟

ماالذي ينبض ُ محرورا ً طريا ً

في رماد ِ المطرح ِ الخاوي بصدري ؟

كـِدت ُ أبكي لابتسامات ِ الصغار ِ السُمر ِ

أطفالي , وأبناء ِ حنيني ,

إنها أصفى من النار ِ

وأقوى من أعاصير ِ جنوني

طالما روّضتهم ْ في الريح ِ والثلج ِ

وفي الشمس ِ على جمر ِ الرمال ْ

شئتـُهم ْ من  معدن ِ الفولاذ ِ سمرا ً

ورياحينا ً طوال ْ

وأنا من أجلِهم أحرقتُ تاريخي ,

وطـِئت ُ التاجر َ الوغد َ المرائي

ثعلب ٌ يمتص ُ من أعضائهم

وهج َ دمائي ,

كلُ جيل ٍ كنت ُ ابنيه ِ من السمر ِ الطوال ْ

لامكان ً له , لابيتا ً وخبزا ً,

صفوة ُ المطلوب ِ خصيان ٌ ضئال ْ

مهنة ُ التمسيح ِ في الفندق ِ

لايبرع ُ فيها غير ُ أشباه ِ الرجال ْ

………….

وتذكرت ُ قتال َ الغول ِ والتنين ِ

في أرضي , وكانت وادعه ,

إخوتي ,أهلي , على درب ِ الهلاك ْ

بعضـُهم في شدق ِ هذا

بعضهم في شدق ِ ذاك ْ

وليموتوا مثلما عاشوا

بلاتاريخ , موتى لايحسون الهلاك ْ ..

على الشعر أن يكون عنيفاً ومتوحشاً قبل أن يكون إنسانياً وجميلاً, كما كان يردد دائما ً

هنا عاد الشاعر الى سدوم ذلك الرمز التاريخي الذي عرّاه وأبان سؤاته في قصائد سابقة, عاد لها بالنار التي تحمّل تبعات ِ حملِها كبروميثيوس بكل شجاعة وروح المسؤولية, ليطهرها ويحرق جميع رموز الذل والمهانة والصغار :

الصلاة الأيوبية المتخاذلة أمام صفعات القدر والتي يتخفى وراءها الجبن والاستسلام, أو دمع ليلى التي انزوت تبكي حبّا ضائعاً دون أن تمتلك القدرة على مجابهة الواقع, أو شهرزاد التي راوغت الطغيان وتحايلت عليه بالحكايا بدل ان تصرخ بوجهه أو تثور عليه . وهناك أيضا ً الفندق والبيت المُخرّب الذي استحال موطناً لتلك الكائنات الانحلالية الهلامية, التي تتلاءم مع العار بشكل فاجع ومخجل وعكاز الأب الذي توكأ عليه عبر سيره الطويل في دهاليز التاريخ المعتمة . والخفاش المُذهّب وهو رمز للعادات والتقاليد الانهزامية, التي صاغت الحياة بهذا البيت المخرّب, حيث يخشع اهله مستسلمين لاقدارهم, وحيث الحياة الممسوخة تتغلغل حتى أن  عذاراهم تستمريء الانياب التي تغرز بهن , ولا يهم إن كانت أنياب خصي أو انياب أمير.و حتى ان شاعرهم ينسل من جيب لجيب خلف الدنانير. فلا شيء يزري  بالشعر أكثر من بيعه كأي سلعة أخرى .

كل هذا جرفته ذاكرته, حتى أمسى كل أمسه في نهر الرماد, ويشرع بعدها في لملمة شتات نفسه وواقعه, ليتجاوز الرفض الى البشرى, الى النظر العميق برواقية متماسكة, تغذيها صرامة نتشوية صلبة, تحلم بعالم جديد وإنسان جديد جدير بعالمه الجديد . إنسانٌ يتجاوز ذاته باستمرار, لا يهتم بما يخسره وبما  يتساقط منه طالما سيكسب في النهاية القدرة على الخلق وإنشاء العالم كما يشتهي . فقد نذر نفسه منذ البداية ليهدم الوجود ويعيد سبكه من جديد متوسلاً الخيال الذي يُذيب ويحطم ليصوغ كل شيء وفق رؤاه . لولا الخلق الفني الذي يفتدي الوجود, ينتشله من هاوية العدم, لكان مصير الشاعر, الخالق نفسه, الرعب وحشرجة اليأس والانتحار. ففي الخلق الفني نعمة خلاص ذاتي ونعمة خلاص كلّي يعمّ الكون . فقد كانت تلازمه على الدوام حسرةٌ دفينة ٌ, هي حسرة القدرة على التجسيد الفني . حيث أنه عانى دائماً ما لا يعيه, وشاهد ما لاتحتويه الرؤى. وأنه, كما انبأته العرافة في أحد قصائده, قد حُمّل من صدق هذه الرؤى ما لايطيق .

رويْت ُ ما يروون َ عني عادة ً ,

كتمت ُ ما تعيا له ُ العبارة ْ.

ولم أزل ْ أمضي وأمضي خلفَهُ

أُحسِّهُ عندي ولا أعيه ,

وكيف أنساق ُ وأدري أنني ,

أنساق ُ خلف العُري والخسارة ْ ,

أودُّ لو أفرغْت ُ داري علّهُ ,

إن مَرّ َ تُغويه ِ وتدَّعيه ْ ,

أُحسُّهُ عندي ولاأعيه .

………….

رحلاتيَ السبع ُ روايات ٌ عن الغول ِ ,

عن الشيطان ِ والمغارةْ ,

عن حِيل ٍ تعيا لها المهارة ْ,

أُعيد ُ ما تحكي وماذا ؟ عبثا ً ,

هيهات ِ أستعيد ْ ,

ضيّعتُ رأس المال ِ والتجارة ْ ,

ماذا حكى الشلال ُ للبئر ِ , للسدودْ,

لريشة ٍ تُجوّدُ التمويه َ , تُخفي الشُح َ في أقنية ِ العبارة ْ ,

ضيّعتُ رأس المال ِ والتجارة ْ ,

عُدتُ اليكم شاعرا ً في فمِهِ بشارة ْ,

يقول ُ ما يقول ْ ,

بفطرة ٍ تَشْتَمّ ُ ما في رحِم ِ الفصل ِ ,

تَراه ُ قبل أن يولدَ في الفصول ْ …….

من قصيدة رحلة السندباد الثامنة مجموعة الناي والريح

ـــــــــــــــــــــ

في حكمه على تطور الفن, يقرر اشبنجلر أن لكل مرحلة من عمر الحضارة أسلوباً يبتدع الفنان . وهو هنا لا ينفي الأصالة والتفرد, ولا يعني بهذا أن يكون إغتراف الفنان من أعماق ذاته واخلاصه لأسلوبه الشخصي يبعده عن أسلوب المرحلة, بل يجعلان من أسلوبه هذا مُظهـِراً لخصائصها والأكثر دلالة عليها . وهذا ينطبق على شاعرنا . فقد قال عنه أحد النقاد ما قاله فيكتور هوجو عن بودلير(لقد أضاف رعشة جديدة للشعر الفرنسي, كذلك خليل حاوي قد أضاف رعشة جديدة غيرمألوفة للشعر العربي) مع الأخذ بالأعتبار الفروق بين الثقافتين الفرنسية والعربية حيث الأولى ثقافة تراكم واستمرار والثانية ثقافة انقطاع ونكوص . فيمكن من دراسة نتاجه الشعري الإطلاع, ليس على خصائص وأسلوب المرحلة الشعرية فقط, بل ربما مجمل تاريخ المنطقة . وهذا حديث آخر ليس هنا مجاله .

ربما كانت أبرز خصائص هذه المرحلة الشعرية (الهامة والمفصلية) تتعلق بالشكل الشعري أولاً . فلم يكن التحول من اعتبار مجموعة التفعيلات المكونة للشطر الشعري وحدة أولى, إلى اعتبار التفعيلة الواحدة كوحدة أولى, لم يكن هذا التحول  شكلياً فقط كما قد يبدو, وإن اتخذه الكثير ممن يكتبون الشعر دون موهبة كبيرة او ثقافة عميقة كذلك . لم يكن هذا التحول شكلياً بل طال المضمون أيضاً, بعد ان ماتت الأغراض الشعرية المتداولة,كما كانت قديماً:فخراً, مدحاً, هجاءً,رثاءً, حكمةً, منافرةً وسواها الى الخوض علاقات الحياة المتشابكة والمتداخلة والمازق الحضاري والوجودي . الى الإنسان والنفس والزمن والحياة والوجود والتاريخ . طال المضمون أيضاً باعتماده الرمز سواء أكان هذا الرمز كلياً او رموزاً جزئية تظهر بشكل صور شعرية .مما يعصم الشعر عن السقوط في سفح المباشرة والتقريرية الفجة .

لطالما واجه الشاعر مظاهر القصورالظاهري في عالم الإنسان بكل أبعاده, إن على المستوى الاجتماعي, والمازق التاريخي والحضاري الذي يشكل التحدي الأكبر له على المنحنى الأفقي . أو المستوى الوجودي والبعد الميتافيزيقي الغيبي, الذي يشده نحو حركية الزمن وعوامل الفناء والعطب المتحكمة بالإنسان من الوهن والمرض والشيخوخة ومتطلبات العمر وهو التحدي الآخر على المنحنى الرأسي العامودي . ليرسم مسار حركنه على المنحنى القطري-المستوى النفسي, وهو محصلة المستويين  الإجتماعي والوجودي .

فلم ينغلق الشاعرعلى ذاته الخاصة, حتى في أكثر لحظات إنشغاله بذاته . لأنه كان واعياً لكونه فرداً, ولكونه فرداً في جماعة في نفس الوقت . وحتى حين يواجه الشاعر واقعه الإجتماعي,فهو لا يذوب مطلقاً في هذه الجموع,وإن كان يحمل همومها وتطلعاتها وآلامها, بل يعتصم بفرديته, بروحه الرواقية النتشوية الصلبة, والتي يفسر بها الظواهر وينفذ بها الى ما تحت الظواهر. فتجيء صوره نفسية حسية, تمتزج بها التجربة والذاكرة والثقافة والخيال .

في صباه الأول, حين انقطع عن المدرسة, مارس مهنة العمار كما هي غادة أهله أبناء الشوير. أفاده هذا حين بدأ في كتابة الشعر. ومع اتساع تجربته, اعتمد البناء السمفوني أو الكاتدرائي. فلم تعد قصائده ذات مقطع واحد, بل صارت متعددة المقاطع والأصوات والحالات . ولم يعد الشاعر يقنغ بالنبذ المجتزأة من تجربة كلية عامة . بل صار يحاول أن يستنفد كلية التجربة وأن ينفذ الى صميمها من جميع جوانبها, وأن يوفي بها الى نهاية مطافها ويستوفي احتمالاتها كلها .

ومن النقاد من يسمون مطولات خليل حاوي القصائد الملحمية الحديثة . إلا أنها ملحمية داخلية . أحداثها ليست أحداثاً وانما هي تحولات واحتمالات وتقمصات تنتاب النفس الشاعرة حين تواجه ذاتها والعالم من خلالها أو ذاتها من خلال العالم .فالبناء العضوي هو ما يميز هذه القصائد, حيث باتت تتنامى وتتسامى مقطعاً إاثر مقطع, تعتو وتتجاوز ذاتها وتتسع  لتستنفد في النهاية تلك التجربة الإنسانية المعقدة والتي ما زال الشعر يتحسر ويهرم على أعتابها . وهذا ما يميز مجموعاته التالية \ الناي والريح \ بيادؤ الجوع \ الرعد الجريح .

هذه أبرز سمات مشروع خليل حاوي الشعري الفريد.وقد يكون لغيره مشاريعاً .لكنها لا ترقى الى هذا المشروع .

قد يكون لدى أدونيس أو محمود درويش مشاريعاً شعرية ً ما , لكنها ناقصة مجتزأة . كما أن عوالمهما الشعرية متأرجحة متذبذبة, لا تسير بتطور منتظم او تحافظ على انتظامها . بل هي أشبه بالخط البياني الذي يصعد حيناً ويهبط احياناً . بخلاف أن العبارة لديهما يشوبها الكثير من القلق أو الرتابة, فهي مبتورة  ومبتسرة كثيراً لدى ادونيس أو تصل حد الترهل لدى محمود درويش . وتظل الشعرية لديهما مطمورة تحت أكوام هائلة من الكلام العادي – ربما كان بمقدور محمود درويش في أواخر حياته أن يبلور مشروعاً شعرياً أكثر صفاءً ورسوخاً , أقول ربما أو أكثر من ربما. أما أدونيس فقد تخلى  منذ زمن بعيد عن اخضلال لغته وأوغل في التجريب والتغريب, حتى باتت نصوصه أشبه ما تكون بالقصائد المترجمة من لغة أخرى ومن مناخات ثقافية مغايرة . لم تعد تجربته أصيلة كما بدأت, بل صارت تجربة دخيلةً . وصارهو ذاته سؤالاً شعرياً كبيراً أكثر منه نتاجاً شعرياً صافياً . صار رغبة في كتابة الشعر وليس كتابةً للشعر .

ربما امتلك السياب أيضاً بذورمشروعه الخاص في سنين نضجه التالية. غير أن المرض لم يمهله طويلاً حتى أسلمه للموت, قبل أن تتضح ملامح هذا المشروع . وفقد الشعر العربي تجربة غنية وموهبة فريدة لا تُعوّض بسهولة .

ذكرت هؤلاء الأربعة الكبار’ لأني أراهم يمثلون (بمختلف اتجاهاتهم وانماطهم وعوالمهم وتجاربهم الذاتية )  أرضية صلبة وقاعدة متينة  للبناء عليها, والاستمرار بعدها . لكن وبكل أسف فإن ثقافتنا ثقافة انقطاع ونكوص .

ماذا عن البقية ؟؟ سوى هؤلاء هناك غيرهم من  شعرائنا الكبار. وسأذكر كمثال : محمد الفيتوري . لكن الفيتوري لا يملك مشروعاً, أو رؤيا شاملة, أو منهجاً ما . بل هو متقمص حالات ٍ فريد ٌ. تارةً هو الدرويش الصوفي , وأخرى هو الثائر . أحياناً يتماهى مع فكرة, ويندمج في شخص من يراها يمثلها . قادرٌ على الإدهاش. لكنه إدهاش ناتج ٌمن العشوائية, أكثر مما هو نتاج تخطيط:- والتخطيط أول مراحل أي مشروع. فهو  ينطلق من رؤى  جزئية مبعثرة , وليس من رؤيا جامعة متكاملة . والشعر في مستوياته العليا بحث ٌ في الكليات عن الكليات بالكليات .أتحدث هنا عن مشروع وليس عن حساسية شعرية أو توهج صور .

لكن ما يميز خليل حاوي عن غيره من كبار شعرائنا, جملة من العوامل التاريخية والجغرافية, تجعل منه النجربة الأكثر سويةً من سواها . فقد نشاء وعاش في الأقليم الأكثر سوية, وفي الزمن الأكثر سويةً, ليكون و بجدارة أزهى عصور هذه المنطقة, وأعني لبنان الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, حين كان لبنان وطناً ثقافياً بامتياز. وهذه هي طبيعته, فلبنان بطبيعته لا يمكن سوى أن يكون وطناً ثقافياً . ولئن حاولت تسمية هذا العصر فلن أجد سوى أن أسميّه (عصر فيروز), قبل أن يتحول هذا الوطن الثقافي متعدد الأبعاد الى وطن سياسي ببعد واحد . ويصير مادةً دسمةً  لنشرات الأخبار, وساحة مفتوحة لتصفية حسابات أقليمية ودولية متشابكة .

يبقى سؤال كبير مُحمّلٌ بأسئلته المتعلقة به . وهو سؤال الخذلان . فمن خذل من؟ وما هي طبيعة هذا الخذلان ؟ وكيف ؟ وماذا؟ ولماذا ؟ ما هي أسباب الخذلان وما هي مآلاته؟ وكيف يمكن تجاوزه ؟ وسواها من هذا الأسئلة, والتي لا تحتمل هذه الفسحة للتصدي لها .

هذا مدخل مختصر لعالم شعري لا يرتضي سوى بالمحال . وحيث تتطابق الفكرة والصورة و العبارة في صياغة واحدة  متماسكة . وحيث الإيقاع الغنائي فيها يمنعها من التشتت والإنفراط . وللشاعر قصائد كثيرة تستحق عندها وقفات مطولة للغوص فيها, واستجلاء غوامضها للوصول الى جوهر الشعر.

أعتذر عن أي قصور أو استعجال أو عدم كفاية أو وضوح في العرض .

شكراً لحسن قرائتكم. ويبقى المجال مفتوحاً لأي تعقيب أو ملاحظة أو استفسار أو إعتراض .      

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :