دمشق المدينة التي تمشي على أهداب القصيدة 5

دمشق المدينة التي تمشي على أهداب القصيدة 5

  • نيفين الهوني

ومن محلات سوق الحامدية إلى  تلك الأعمدة التي تعترضك عند نهاية سوق الحميدية والتي ليست مجرد بقايا حجرية صامتة؛ بل هي صدى عصورٍ بعيدة.وأعمدة معبد جوبيتير الدمشقي، والذي شيّد في العصر الروماني قبل ما يقارب ألفي عام، حين كانت دمشق عاصمة للشرق الروماني ونقطة التقاء بين طرق التجارة والقوافل. وكانت هذه الأعمدة جزءًا من هيكل ضخم يكرّس لعبادة الإله جوبيتير، إله السماء والبرق في الأساطير الرومانية، وقد شُيّدت بأسلوب معماري مهيب يعكس هيبة السلطة وعظمة الحضارة.

فكل عمود منها ينتصب بارتفاع يقارب العشرين مترًا، يعلوه تاج كورنثي مزيّن بزخارف نباتية متقنة، وكأن الحجر تحوّل إلى ياسمين مجمّد في الزمن. كانت الأعمدة تصطف لتشكّل مدخلًا ملكيًا للمعبد، يقود الزائرين عبر بوابة عملاقة إلى ساحة مقدسة تحيط بها أروقة وتماثيل. ومع تعاقب العصور، احتضنت هذه الأرض الديانات المتتابعة، فارتبطت الأعمدة بالجامع الأموي الذي قام على جزء من أرض المعبد القديم. هكذا، تحولت من شاهد على عبادة وثنية إلى بوابة روحية تقود إلى أقدس مساجد العالم الإسلامي.

واليوم، تقف هذه الأعمدة على تماسّ بين التاريخين؛ تلمسها فيشعرك الحجر بدفء القرون، وتحدّق فيها فتراها تُحاور مآذن الجامع الأموي في حوارٍ صامت بين زمنين، بين أسطورة وإيمان، بين وثنية وتوحيد.هناك وقفت لأول مرة في صمت اتأمل مالم أشاهد من قبل وما لا يمكن أن تصفه الكلمات  فمن بوابة سوق الحميدية، حيث تنساب الظلال على حجارة رصفتها قرون العابرين، تبدأ الحكاية…

وهنا، في قلب دمشق التي تعانق الشمس منذ فجر التاريخ، تتقاطع الأزمنة كخيوط حرير دمشقي نسجتها يد الكون بحنوّ الأبد. أمتد  أمامي ممرّ طويل كقصيدة حبّ محفورة في الحجر، تعطرت أروقتها بعبق الياسمين ووشوشات الباعة، حتى افضت بي الخطى إلى أعمدة جوبيتير، شامخة كحراس أسطوريين شهدوا ولادة الحضارات وتلاشي الممالك.

ومن ظلال المعبد الروماني، تسلل نور التاريخ ليقودني لحضن الجامع الأموي، حيث المآذن كأصابع ضوء تشير إلى السماء، وحيث يلتقي همس المصلّين بصلوات الدهور الماضية.إنه معبر من الزمن… من أسطورة إلى إيمان، من حجر روماني إلى قبة إسلامية، في لوحة واحدة لا ترسمها إلا دمشق، العجوز الفاتنة التي لا تشيخ.

ومن بين صدى الأعمدة الرومانية، فتح أمامي الجامع الأموي كجوهرة خالدة في تاج دمشق.

دخلت ككل الزوار بوابته فانتقل بي  من صمت الحجارة الوثنية إلى خشوع المعمار الإسلامي، وكأن الخطوة نفسها عبور من اسطورة إلى وحي. منحوني ذاك الرداء الاسلامي  الرمادي لألبسه فوق ملابسي لأدخل للصلاة  وحينما دخلت إلى  باحته الرحبة، وجدت الأرض الرخامية ساخنة رغم برودة الطقس وهناك يرقص الضوء على أرضية الرخام الأبيض، وتعكس البركة المائية زرقة السماء فتغدو كمرآة صافية تربط الأرض بالسماء.ومآذنه الثلاث، كحرّاس الزمن، تحكي قصص الغزاة والحجاج والرحّالة الذين مرّوا من هنا منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام  و مزدانة بالفسيفساء الذهبية التي تصوّر جنانًا وأنهارًا، أبدعها فنّانون بيزنطيون.

هناك صليت أنا وهناك أيضا صلى الخلفاء والفقهاء، ووقف المتصوفة في حضرة الله، وارتفعت الدعوات في الليالي المقمرة حتى لامست النجوم. خرجت بعد صلاة وتأمل أستغرقت فيه حتى بعد صلاة العصر وبداخلي  أردد هذا ليس مجرد مسجد بل هو ذاكرة أمة ، وملتقى الأرواح التي جاءت من كل فجّ عميق تحمل معها قصصها وأدعيتها وفي صحنه تتقاطع اللغات واللكنات فتتعانق الأرواح وتستكين الأنفس وينصهر الجميع في بوتقة إيمانية دمشقية .يتبع

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :