محمد الزروق
تشرع في تقليب الأدوار في الحياة التي تعيشها, تسعى إلى أن تضع واقعا في شاشة افتراضية, وتعيش ما تراه على الشاشة واقعا آخر, تتكلم فيه.. تكتب.. تستمع.. تسجل.. تشاهد.. تضحك مع أناس حقيقيين, ليسوا آليين مثل من تراهم في الشارع.
تبكي بدموع وبلا دموع.
الدموع والحزن متلازمتان كاذبتان.. أسهم الإعلام في تضخيم العلاقة بينهما مثلما أسهم في تضخيم العلاقة بين من صنفوا أنفسهم شيعا وأحزابا إسلامية وليبرالية بربيع الثورات العربية, الربيع الذي صاف اليوم ويعيش خريفه…
هم يعيشون خريفه, أما أنت فتحيا واقعا افتراضيا في مكتبك الذي يقبع في شارع البيبسي على بعد خطوات من كتيبة الدبابات التابعة للجيش الوطني حيث تجري الاشتباكات الآن…
عندما يكون الواقع سيئأ فلا بأس من الانكفاء والاختباء أوالرحيل… الهجرة.. الهجرة أمر صعب بل مستحيل في مثل هذه الظروف, لصعوبة ركوب الأنواء. وصعوبة الحصول على جواز سفر, لذلك قد يفهم جيداً أو لا يستوعب البتة أي مخلوق سر التجائك إلى العالم الوهمي.
إنه مليء بالأكاذيب, ولكنه ليس بأكثر كذبا من واقع الذين يصرون على إنبائك بأن ليبيا واحدة وتقرأ من الجهتين وأننا شعب متجانس ذو ملة واحدة, ولا وجود لأعراق أو طوائف بينكم, في حين أن قرونا من التاريخ المفصل تصدمان كل ذي لب بأن هذه الأرض الممتدة من البطنان إلى جبل نفوسة لم يهدأ لها سيف في غمد بين سكانها إلا بمجيء السنوسي الأول, مع كل هذا فإن الأحقاد لم تدفن بشكل نهائي وظلت لهيبا تحت رماد تكفي ريح عابرة في إيقاد جذوتها من جديد.
لعدة أسباب اخترت الهجرة إلى ذلك العالم. كانت وسيلة سفرك إليه جهاز حاسوب متصل بالشبكة العالمية داخل مكتبك الذي لا يبعد إلا خطوات قليلة عن محور القتال الدائر الآن…
وفي جعبتك كتب مختلفة..
يلفت موسم حكايا الفاخري * نظرك.. إنه موسم الدموع… تتوجه إلى الكتاب بالحديث: عذرا أيها الفاخري.. لم نعد نحن مثلما تركتنا.. ولم يعد الكورنيش والفندق ووسط البلاد وحتى ذلك الفندق الذي كتبت فيه حكاياك مثلما ألفته.. بل لعله لم يعد له وجود من الأساس.. حتى النوارس هجرت الشواطئ ولف الصمت تلك الغرفة رقم 211.. هل قلت إن أكثر ما يزعج الناس هو قرقعة الآلة الكاتبة الصادرة منها؟ حسنا أبشرك أنها اليوم أصبحت خالية هي وبقية الغرف.. وأن صوت حروف الآلة لا يمثل شيئا أمام هدير آلات الحروب الضخمة التي تعمل في الفندق وفي وسط البلاد بكل ضجيج..
أيقونة الدموع سلاح تستخدمه في مرات متعددة, وفي كل مرة يختلف المعنى…
تكتب العديد من القصص. تستمدها من الواقع. تطرق أصابعك لوحة المفاتيح برفق. حالما تصبح جاهزة تنثرها. يقرؤها أناس حقيقيون يعيشون بأرواحهم معك في المهجر.
لا تعني الدموع دائما الحزن. انهمرت أمامك كثيرا في مناسبات لا تتشابه مع بعضها البعض دموع مختلفة, وفاة عزيز أو سفره وأيضا عودته, فوز في حدث رياضي, أو نجاح في امتحان مستعص, أو الحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية, أو تجاوز محنة قاسية, أو دون أي سبب واضح, بكاء لمجرد البكاء.
وقد تنهمر لفعل اعتيادي جدا دون أن تعني شيئا.. كجلوس سيدة متخمة البدانة أمام طاولة مستديرة.. لتذرف الدمع لمجرد أنها قصت بالسكين قطعة من البصل..
لكن دموعك تتساقط الآن من فرط الإهمال والكآبة وغياب المشاهد اليومية المألوفة وانتشار روائح القمامة والمرض والموت فتنثر نصك إلى الفضاء الافتراضي وأنت تطل من شرفة مكتبك..