- محمد عمر أحمد رئيس تجمع ليبيا الأمل
توطئة
حتى أواخر العام 1951 كانت القبيلة ولقرون طويلة تقوم مقام الدولة في كافة أشكالها وتمظهراتها في ليبيا
باستثناء مدناً قليلة على ساحل المتوسط كطرابلس وبنغازي ودرنة والبيضاء ومصراته.
ولأن الدولة كمفهوم وواقع معاش ظلت غائبة حتى نشأة المملكة الليبية المتحدة في النصف الثاني من القرن
المنصرم، فإن المنظومة القيمية للإنسان الليبي هي بتبسيط شديد عبارة عن السلم القيمي لميراث القبيلة في
سموه كالجانب المشرق لهذه المنظومة القيمية كالتواد والتراحم وإغاثة الملهوف والتعايش السلمي ومكانة
المسنين والحياء والحشمة وحسن الخلق والموت دون الكلمة والصلح، أو في جانبها المظلم كالإغارة والسلب
والنهب والثأر مع وجود قوانين شفاهية تعارفت عليها القبائل كآداب ومثل لإدارة الصراع والإختلاف بين
القبائل.
والمكانة الإجتماعية التي تتحدد منذ الولادة حسب أصل ونسب كل فرد، مما يعني ان السُلم الإجتماعي يتسم
بالتفاوت وأنه عصي على الإختراق والتشتت الشيء الذي يعني التمايز الإجتماعي والعرقي منذ الولادة.
ومنذ نشأة الدولة المدنية في ليبيا منذ ستة عقود ونصف حاول الآباء المؤسسون للدولة الليبية إرساء دعائم
المجتمع المدني الحداثي الذي يتعارض ضمنا مع مفهوم القبيلة إلا أن سطوة الحضور الطاغي للمنظومة القبلية
وتعدد التابوات جعلت قيم وميراث القبيلة يتواءم مع شكل الدولة الجديدة ويطوعها لصالحه.
ولأن تغيير 1969 كان مشروع مجتمع حداثي جاء استجابة لمطالب قطاعات عريضة من الشعب الليبي الذي
عانى التهميش والتشرد والمعاناة في ظل الدولة النفطية التي استفادت منها فقط النخبة المخملية من المجتمع
الليبي دون سواهم من سواد الشعب، لذا أراد تغيير 1969 الحد من هيمنة الطبقات المترفة وإلغاء الطبقية
وتمكين الشعب الليبي من مقدرات بلده وجعل القرار الوطني مستقلا دون تبعية من خلال فك الإرتباط بدوائر
التبعية الغربية من خلال إجلاء القواعد البريطانية والأمريكية بالكامل وبقايا الطليان الفاشيست عن أرض
الوطن.
تغيير 1969 الذي كان تجسيدا لإرادة السواد الأعظم من الشعب لم يعادي القبيلة ولا حارب منظومتها القيمية
بل العكس تماما عمل على تعزيز روح القبيلة والتمسك بالجذور والأحساب والأنساب وبرع تغيير الفاتح 69
في توظيف القبيلة كواجهة إجتماعية لإدارة الإختلاف وتحقيق وضمان التوازنات المختلفة في المجتمع.
دور القبيلة ……
منذ اندلاع الأزمة الليبية في العام 2011 حاول الكثيرون تهميش القبيلة واحلال مؤسسات مجتمع مدني بدلا
عنها، إلا أن آلاف المؤسسات والهيئات والجمعيات التي نبتت كالفطر في ليبيا منذ مطلع 2012 لم يعمر الكثيرمنها، والقليل الذي لازال صامدا انحصر دوره في العمل الخيري والتطوعي دون القدرة على النفاذ إلى
المكون الإجتماعي والعمل على التأثير فيه سلبا او ايجابا، في حين أن القبيلة ظلت هي صاحبة الحضور
الطاغي والسطوة المطلقة في غياب الدولة واختفاء دورها بانهيار مؤسساتها الأمنية والعسكرية والإدارية!
فالإحتراب والإقتتال بين مكونات الشعب الليبي معظمه اتخذ لبوسا قبليا صرفا كنوع من إحياء الثارات
والنعرات القبلية التي ظننا انها اختفت وانتهت بعد ستة عقود من نشأة الدولة المدنية في ليبيا، وبالمقابل لعبت
القبيلة دورا محوريا وإيجابياً في إطفاء الكثير من الحرائق التي اندلعت في عموم ليبيا من خلال مجالس الصلح
بين القبائل، ولولا نظام التكافل الإجتماعي القبلي لعاشت ليبيا كارثة إنسانية بكل ما للكلمة من معنى جراء
تدفق النازحين والمهجرين نتيجة الإقتتال في مناطقهم. أضف إلى كل هذا أن مجالس القبائل الليبية في عموم
ليبيا كان المبادرة إلى الدعوة إلى المصالحة ورأب الصدع ولم شتات وعودة المهجرين والمبعدين وكانت هذه
المجالس أو الداعين والمهتمين بقضايا الأسرى، وحتى يومنا هذا نجحت هذه المجالس القبلية في إبرام 68
صلحا من أصل 74 في ليبيا بين القبائل والجهات والمناطق المتنازعة فيما بينها (أي ما نسبته 91%) كما أن
هذه المجالس نجت في تبادل الأسرى في 38 واقعة وحادثة من أصل 57 بين المليشيات المتقاتلة أو الجهات
والمناطق المتحاربة (أي ما نسبته 67%)، وبهذا تقول لغة الأرقام التي هي اللغة الأكثر إقناعاً راهناً أن القبائل
في ليبيا كانت الجهة الأكثر فعالية في الوقوف وبشكل سلمي في وجه الجنون والعبث اللذين عاشتهما ليبيا خلال
السنوات الخمسة العجاف التي مرت بها، بل إن دورها فاق دور الحكومات الإنتقالية المتعاقبة وفاق دور بعثة
الأمم المتحدة للدعم في ليبيا على أهميته وبديهياً أن دورها فاق بأشواط عديدة كافة الأحزاب والهيئات والنقابات
ومؤسسات المجتمع المدني التي أُريد لها أن تحل محل القبيلة!
عليه ومن هذا المنبر نجدد الدعوة إلى ضرورة رد الإعتبار للمكون القبلي وتفعيل دوره ليقيننا أن أي حل أو
وسيلة لإحلال السلم الأهلي في ليبيا لن يكتب لها النجاح دون دور مجالس القبائل الليبية في عموم ليبيا.
من هنا أرى انه يجب التفريق بين أمرين في غاية الأهمية هما؛ السلم الأهلي، والثاني بناء الدولة المدنية،
فالاول أمر ملح واستعجالي ولا يمكن الشروع في أية ترتيبات دون إحلال حلال السلم الأهلي وهذا الأمر لا
شك أن القبيلة ستلعب فيه دوراً محورياً وقيادياً في إحلال السلم والأمن الأهليين عبر أعراف وتقاليد متعارف
عليها بين القبائل أقلها رفع الغطاء الإجتماعي عن افراد المليشيات المتحاربة.
أما الأمر الثاني فلا أرى للقبيلة أي دور فيه لأنهما مفهومين متعارضين يصعب قيامها معا بالتوازي فأي خطوة
للأمام لأي منهما يعني ضمنا تراجع الثاني خطوات للوراء لذا أرى أن المجتمع المدني أو الدولة المدنية في
مثل الحالة الليبية الراهنة ترف فكري ومحاولة للي عنق الحقيقة ووضعاً للعربة قبل الحصان وفيه هدر
ومضيعة للوقت وتشتيت للجهد دون طائل، فالأجدر والأصوب أن نعمل راهناً على إحلال السلم والأمن
الأهليين في ليبيا وبكل السبل وإجراء مصالحة حقيقية والعمل على العودة السريعة الكريمة واللائقة والمشرفة
لكافة المبعدين والنازحين والمهجرين والشروع في ترتيبات وإجراءات العدالة الإنتقالية حيث أن سياسة
الإفلات من العقاب ستعمل على تأجيج الأحقاد وتجدد الإختلالات الأمنية واندلاع حرب أهلية أخرى في أي
ظرف.
دور مؤسسات المجتمع المدني …
حقيقة لا أرى في هذه المرحلة أي دور يذكر لمؤسسات المجتمع المدني لأن الظرف التي تمر به ليبيا يستدعي
اولا وقبل كل شيء استعادة الأمن والأمان وإحلال السلم الإجتماعي القار والدائم في عموم ليبيا دون إبطاء، أما
عند الشروع في بناء الدولة المدنية فإنه لا شك سيكون لهذه المؤسسات الدور الأهم والمحوري في إرساء ثقافة
السلم والتعايش السلمي وتقبل الآخر شريك الوطن ونبذ ثقافة الكراهية والحقد والتشفي، كما أنه في مرحلة بناء
الدولة المدنية سيكون لهذه المؤسسات دورا محوريا في تعزيز وتوطيد ثقافة الديمقراطية والتبادل السلمي
للسلطة ونبذ العنف ومحاربة الإرهاب والتطرف.
الشباب ….
للحديث عن الشباب في ليبيا ينبغي أن تفرق بين فيئتين متمايزتين من الشباب هما شباب المليشيات والشباب
خارجها:
• الشباب المنضوي تحت مليشيات عسكرية لأسباب شتي: هؤلاء على المجتمع النظر إليهم كضحايا وليسوا
كمجرمين، لأن المجرمون الحقيقيون هم أمراء الحرب الذين استغلوا حاجة الشباب وزجوا بهم في أتون
معارك دامية أتت على الأخضر واليابس دون هوادة وهؤلاء الشباب المغرر بهم ينبغي اعادة تأهيلهم نفسيا
وإجتماعيا وإعادة دمجهم في الحياة النشطة من خلال حل كافة المليشيات المسلحة التي شكلت خطرا على
المجتمع والتي كانت سببا في الإختلال والإنفلات الأمني وقوضت معظم الجهود السلمية لبناء الدولة المدنية
وعملت على وأد كافة محاولات المصالحة أو التقارب بين الليبيين وأن توضع خيارات ثلاث أمام الشباب
المنضوي تحتها:
- فإما الإنضمام للمؤسسة العسكرية بشكل فردي بعد إجتياز الإختبارات والفحوص المؤهلة لذلك.
- أو القيام بدراسات عليا في مجال تخصص حملة الشهادات الجامعية منهم على حساب الدولة بعد إستكمال
متطلبات الإيفاد الداخلي أو الخارجي حسب رغبة هؤلاء وحسب متطلبات التنمية في ليبيا. - أو الحصول على قرض من الدولة لإقامة مشاريع صغيرة على ألا يتجاوز القرض الواحد 50000 دينار
ليبي.
أما الشباب خارج تلك المليشيات المسلحة فهم ليسوا مشكلة، بل هم جزء من حل المشكلة و هم الجزء المعول
عليه.
المرأة….
لا شك أن المرأة الليبية كانت الوجه المشرف طيلة الأزمة الليبية، فالنساء المحرضات على الفتنة قليلات
والمشاركات منهن في الإقتتال ومعارك الحرابة والقتل والسلب والنهب قليلات جدا، وكانت المرأة الليبية طيلة
مدة الفتنة حمامة سلام وقفت بشدة إلى جانب الخير والحق وعملت على الكفاح السلمي بنشاط وهمة عبر كافة
المنابر والمؤسسات المتاحة للتعبير عن رأي السلام والمصالحة ووقف الجنون والإقتتال بين الإخوة وشركاء
الوطن ولا شك أن مساهمتها حاليا ستكون أهم وأكثر جدوى بعد أن انحسرت موجة الجنون وبدأ الكثيرون في
الجنوح إلى السلم وصوت العقل وتغليب مصلحة الوطن.
لذا أرى دورها سيكون اهم وأبرز في هذه المرحلة، فلئن كان صوتها مغيب ولا أحد من الفرقاء كان يسمتع له
إلا أنهم الآن سيستمعون لصوتها لإعتبارات عديدة أقلها أنها لم تكل أو تمل من الدعوة إلى الصلح والسلام
والمصالحة ووقف جنون الإقتتال.