قصة قصيرة :: عوض الشاعري
كان مساء شديد البرودة وكنا نتحلق حول مجمرة الصفيح و ننصت بخشوع لصوت جدتي التي تروى لنا بطولات جدي المطلوب جناية للطليان و كيف سرى بنجعه ليلا باتجاه بر مصر خوفا من باندة عاكف و بعض البصاصين . . لازلت أذكرها بملامحها البدوية و هي تدس بعض ذرات التراب في أيدي والدتي و زوجة عمي و بناتها المتزوجات . . كنت أراها على عكس أهل الحي الذي كنا نقيم فيه على أعتاب مدينة الأسكندر و هي ترقص بفرح طفولي حينما تصطبغ السماء بلون أحمر قرمزي يبعث الكآبة و الخوف، و حبات الرمال تحجب الرؤية و تلهب العيون . . كانت جدتي مثل عروس تنظر باتجاه الأفق الغربي و تقول : طيبك عجاج . . ثم ترتجز قائلة :
تراب برقة يادواء يا حنة . . يا طيب يآتي من جناين هلنا .
وكانت تأمر النسوة بتجميع التراب الناعم وحفظه في إناء من الفخار . . ثم تخلطها ببعض من مياه المطر وتصنع منه مزيجا تضمخ به أجساد صبايا النجع وتدخر ماتبقى للنساء في مواسم الحمل و الوحم كي يتسرب الوطن عبر مشيمة أجنتهن سلسا و دافقا دونما حدود . . . ياالله كم مضى من عمر قبل أن أكتب حكاية عشقنا أيها الوطن قبل أن أراك ؟
وكم سفحت من دمي و عرق أبنائي على مذبحك المقدس و لم أعثر عليك واضحا و نقيا بلا جحود . . سوى في بلاد الناس !!