هند الزيادي
انتهيت من قراءة رواية “تراب سخون” للروائية التونسية الجميلة أميرة غنيم وخلُصت إلى مجموعة أفكار احببت أن أشارككم إياها وأزعم أنني كنت حريصة على عدم “حرق أحداث الرواية” حتى لا أفسد عليكم متعة قراءتها واقتصرت في حديثي عنها على زاوية خاصة بي لكم أن تشاطروني إياها أن تتخذوا زواياكم ومواقعكم الخاصة 🙂
صورة السيدة وسيلة بورقيبة على جدرا قديم مقروش مشقق هي أول ما يطالعك من رواية “تراب سخون” ، فتشد القارئ عنوة إلى تاريخ تونس وملعب الأحداث التي كانت البلاد مسرحها مع رئيسها الأول الحبيب بورقيبة وزوجه الثانية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس لأسباب مختلفة. غير أن ما شغلني وأنا أقرؤها هو البحث عن جماليات الرواية فيها ، عن الفنّ. فللتاريخ أهله الذين لم يقصروا في الكتابة عن تلك الفترة وما تعدد الكتب والأطروحات إلا علامة على ذلك .
انشغلت بمحاولة اكتشاف براعة أميرة غنيم في الهروب من فخ التأريخ خاصة أنها تصدّت لشخصيتين من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في تاريخ تونس: رئيسها الأول السيد الحبيب بورقيبة وقرينته الثانية وسيلة
جسد الرواية هو ضفيرة من مجموعة رسائل وسرد ترويه الشخصيات من منظورها لحقيقة ما وقع. دون ان نجزم إن كان ما ترويه هو “ال… حقيقة ” أم هو ببساطة رؤيتها لها.
فاما الرسائل فهي بين شخصيات حقيقية عاصرت الأحداث وشخصيات متخيلة .ولا نعرف إن كانت هذه الحواشي هي تعليق على الهوامش لتفسير ما جاء مبهما في المتن، أم هو إشارة لطيفة خفيّة للحاشية التي تغولت وتعقربت في آخر حكم الرئيس بورقيبة لتفتك بالبلاد ومقدراتها.
وأما المتن فقد صاغته الروائية في فصول اختارت لها عناوين بعضا من مطالع الأغاني التونسية العتيقة التي شكلت تراثنا الغنائي الجميل. ويندرج هذا التقسيم في إطار بحثها عن جماليات جديدة لروايتها لتثري بها فعل التلقي وتكثفه . ولا أعتقد أن هذا مجرد خيار شكلي يخص معمار الرواية بل أراه فعلا متعمدا لشد الرواية بعيدا عن دمغة “الرواية التاريخية” أو” الرواية السياسية” ثم وضعها في إطارها الصحيح المقصود وهو العمل الفنّي المؤسس أولا وأخيرا على التخييل، حتى لو كانت قماشته الأصلية التاريخ.
هذ الخيار الفني معمول به ونجد أثره في روايات الكثيرين ممن وظفوا الفنون المختلفة لخدمة أهدافهم الروائية(بارغاس يوسا، واسيني الأعرج، بهاء طاهر، أحلام مستغانمي، جبرا ابراهيم جبرا، وغيرهم…). وقد جعلت عناوين تلك الفصول شبح التراجيديا اليونانية القديمة يخيم من بعيد على الرواية( نشير هنا إلى أن الكاتبة جعلتها ثمانية محاكية نفس عدد فصول التراجيديا الاغريقية القديمة)، فكأنّ تلك العناوين الغنائية صدى للكورس الذي يردد الأناشيد ليفسر بها الحدث الدرامي ويعلق عليه. ولا أظنّ الأمر اعتباطيّا فالروائية تتعمّد شدنا إلى البدايات، إلى أصل الحكي، أصل السرد، إلى الأسطورة لتخرجنا من مأزق التاريخ ورواياته المتعددة وأسئلته التي تنوس بين الصدق والكذب إلى التخييل بما هو الحقيقة الوحيدة الممكنة ، أو المقاربة الوحيدة الممكنة التي نعالج بها نصا روائيا. شكلت هذه الأغاني وسيلة داخلية لتأمّل الرواية في ذاتها والتعليق على قصة الحب التي نشأت بين زعيم البلاد آنذاك ومحبوبته التي ملكها الرقاب فيما بعد ثم هوى بها من علّيين لما طلقها غيابيا. لم يكن خط السرد مستقيما فتقطع حسب رؤية السارد ومنظوره السردي. ولكن الروائية سطرت لنا أطوار تلك القصةالتراجيدية من بداية إشراقها إلى أفول نجمها بتنحية الرئيس العجوز ووفاة “الماجدة” بمناظير متنوعة من أجل أن تنزع عن عملها الفني أية شبهة تاريخية ذات الوجه الواحد الثابت. وتجعل الحقائق هنا متنوعة تفوّت على القارئ راحة الركون إلى رواية واحدة وتبعث داخله الشك في صحة ما يقرأ وتستفزه ليبحث ويكون حقائقه الخاصة. من أجل ذلك نزعت الروائيةعن شخصياتها هيبة الحكم وحولتها إلى رجل يحب ويغار ويتلاعب بقلب محبوبته ، وامرأة تحب وتغضب وتنهش الغيرة قلبها فتنزع عنها طيلسان الحكم وتتحول إلى امرأة عصبية أو حزينة أو ثائرة في وجه حبيبها دون رهبة من زعامته وفخامته، إمرأة لاعلاقة لها بالأحداث الجسام التي تشهدها المنطقة ولا بالشخصيات المهيبة التي تعاملت معها من رؤساء وملوك وزعماء في فترة ساخنة جدا من تاريخ المنطقة والعالم، تبكي قصة حبها وخيانة حبيبها لها.
وللإمعان في شدّ الرواية بعيدا عن التاريخ ووثوقيته جعلت أميرة غنيم من خيط ماريان الناظم في هذا الرواية سرد حكاية سعي الماجدة لإعادة شيء غامض إلى الرئيس العجوز في مقر إقامته الجبرية خائضة في سبيل ذلك مطاردات ومغامرات لا نكاد نفرز صحيحها من متخيلها. لم تسمِّ الروائية ذلك الشيء أبدا ولم تذكر عنه تفاصيل باستثناء أنه مستخرج من الأرض في تلميح إلى أنه قد يكون من الآثار. لكن لا دليل على أنه من مادة نفسية، كل ما نعرفه عنه أنه في هيأته الأفعوانية يستولي على الشخص وينثل عليه لعنته فيخنقه، أو يحدث فيه ضررا ما فلا يسلم منه إلا الأطفال الذين تحرسهم براءتهم ونقاء سريرتهم ولم يتلوثوا بأدران الحكم ودسائسه
يمكن أن يتّخذ ذلك الشيء في خيال القارئ الشكل الذي يختاره: فهو مرة تركة الحكم البالية، وهو مرة طوق الحكم وآلته الجهنمية ذات الطبيعة الآناكوندية التي تعتصر ضلوع كل من يتوسم في نفسه شجاعة التعامل معه، وهو عند السياسيين المتفائلين الحالمين مسؤولية عظيمة وأمانة جسيمة وهو عند المثاليين خردة لا يحتاجونها ولا يطمعون فيها. المهم أن ذلك الشيء بغموضه واختلاف أوصافه ومواقف الشخصيات منه أمعن في نثر غبار الخرافة السحري على الرواية فحولها إلى لوحة فنية تتألق فيها اللغة حتى تستحيل عروسا (كما هي الحال في روايات أميرة غنيم جميعا) تتقن الروائية تزويقها ، ثم تراقصها على سلّم الزمن فإذا هي تتثنّى بدلال بين قرار الدّارجة وجواب الفصحى الكلاسيكية، لغة الجاحظ وابن عبد ربه والسيوطي. وتتحول اللغة في حد ذاتها من مجرد حامل للمعنى إلى موضوع لنفسها، إلى أداة لتكريس فنيّة الرواية وجماليتها من خلال الاشتغال على الحروف ذاتها والكلمات والمشتقات والجذور. لغة أميرة غنيم تحول رواياتها إلى ما يشبه المنمنمات الفارسية القديمة التي تسحرك بتنوع خطوطها وألوانهاوانحناءاتها. أو حدائق مزهرة في جنان أندلسي أو خارج أسوار بغداد
لذلك فهي تخيب في هذه الرواية انتظارات المتحفزين الذين ينتظرون منها موقفا سياسيا أو تمجيدا للزعيم الراحل أو قطعا في قضية سياسية ما من القضايا التي أثارتها كتب التاريخ، بل وتترك لهذه الأخيرة مهمة الشهادة على تلك الحقبة التاريخية السياسية من تاريخ تونس وتنشغل هي بتشريح نفسيات شخصياتها،الرئيسة أساسا، لتكشف لنا أنّ سر خلود الإنسان بمشاعره وإنسانيته، بعيوبه واحتداد مزاجه، بأخطائه وتفاهاته وكل ما يعتمل في داخله من أفكار ولواعج وليس بحكم أو هيلمان وبهرج سياسي. يبتلع التاريخ تلك الأسماء ولا يبقي منها إلا إنسانيتها الهشة وهي تحاول الوصول إلى اهدافها وتدفع إلى الأعلى تركتها الإنسانية في عزيمة سيزيفية منازعة كل الأقدار للوصول إلى غاياتها مهما وضُعت أو تسامقت.………………………………………………………………………………..