رَبَـاب أدْهَـم.. وَدُرُوبُ الْـحَـيَـاة

رَبَـاب أدْهَـم.. وَدُرُوبُ الْـحَـيَـاة

كتب :: إنتصار أبو راوي 

فى كتاب “دروب الحياة” للسيدة رباب أدهم ،تتجلى السيرة الذاتية التى تؤرخ لمسيرة حياة امرأة تعتبر رائدة من رائدات العلم والتعليم فى ليبيا وناشطة فى مجال حقوق المرأة فى خمسينيات القرن العشرين عبر جمعية النهضة النسائية تبدأ المؤلفة كتابها وسيرتها الذاتية بالحديث عن والدها من خلال سردها لسيرة حياته،وتفاصيل أنضمامه إلى صفوف المجاهدين فى بلدته التي خاض فيها عدة معارك ضد الإيطاليين صحبة أبناء عشيرته “المداهنة” من قبيلة أولاد غيث ومطاردة القوات الإيطالية له ومحاولة القبض عليه وإحراق ممتلكاته ومنازل أسرته ومزارعها فى زليتن وتذكر الكاتبة فى كتابها “دروب الحياة ” بأن والدها ولد فى طرابلس وتلقى تعليمه الابتدائي فى مدارسها العثمانية ،وأثناء ذلك التحق والده بالجيش التركي وترقى إلى رتبة ضابط وبعث فى مهمة عمل إلى إسطنبول ثم سوريا فاصطحب معه أسرته وهناك فى سوريا واصل والدها دراسته بالمدارس التركية فى سوريا جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي تتحدث الكاتبة فى هذا الجزء من السيرة ،عن جمعية الدفاع الطرابلسي البرقاوي التي تم إنشاؤها في دمشق والتي انضم إليها والدها بعد هجرته من ليبيا إلى سوريا وتفصّل نقاط الوثيقة التي ذكرت فيها أهداف الجمعية، ومنها عرض جرائم الاحتلال الإيطالي وطلب المؤازرة من دول العالم للخلاص من الاحتلال الإيطالي وتكونت اللجنة التنفيذية من الأعضاء المؤسسين : بشير السعداوي ،عمر شنيب، عبد الغني باج فني ،فوزى النعاس وعبدالسلام أدهم وآخرون وانتخب بشير السعداوي رئيساً لها والسيد عبدالسلام أدهم نائبا له في رئاسة فرعها بالأردن. هجرة العائلة إلى الأردن وتمضي السيدة رباب أدهم في سرد تفاصيل حياتها بذاكرة يقظة ، لتروي تفاصيل حياتها منذ أن أستقر والدها في الأردن بقرية “المفرق” فى عام 1925 وزواجه من والدتها الليبية ابنة الأسرة التي هاجرت إلى عمان بعد الاحتلال الإيطالي لليبيا وهي عائلة الحاج “محمد المبروك الجهمي” وتم زواج والدها ووالدتها فى عام 1933حيث تركت والدتها بيت والدها في عمان و استقرت مع زوجها في قرية “المفرق” الحياة في الأردن بين قرية “المفرق” و”عمان” تصف الكاتبة بدقة متناهية البيت الذي قطنت به العائلة في قرية المفرق ومدرستها الابتدائية وتفاصيل مدرساتها وأسمائهن وطريقة ملابسهن والأحداث اليومية بالمدرسة وصديقات الطفولة، والحياة بالقرية والصلة بالجيران الذين كان منهم بعض العائلات الليبية التي هاجرت للأردن مثل أسرة علي باشا العابدية ، ومحمد علي الأوجلى ، ومحمد بن عيسى وغيرهم ، ثم تتحدث الكاتبة عن انتقالها للعاصمة عمان حيث بيت جدها للالتحاق بالدراسة في المدرسة الثانوية للبنات لعدم وجود مدرسة ثانوية في قرية المفرق ، وتسرد السيدة رباب أدهم بأسلوبها الشيق الجميل تفاصيل كثيرة عن الحياة في بيت جدها لأمها وهي العائلة الليبية من “آلِ الجهمى” التي هاجرت إلى الأردن هربا من الاستعمار الإيطالي ، في بيت جدها بعمان تنطلق رباب لحياة أكثر اتساعا ورحابة، من حياتها مع أهلها في قرية المفرق حيث الأجواء المتفتحة في العاصمة عمان،فى أواخر أربعينيات القرن العشرين وتصف بدقة شوارعها ومبانيها،و مدرستها الثانوية وأسماء صديقاتها، وذهابها معهن إلى السينما والمسرح ،ويدهش القارىء من ذاكرة المؤلفة اليقظة التي تسرد كثيرا من التفاصيل الدقيقة التي قد يتصور المرء بأن الذاكرة قد تسقطها بفعل طول المدة الزمنية ولكن ذاكرة الكاتبة حاضرة بدقة، وبأسلوب سردي جميل وسلس تصف المؤلفة الأجواء المحيطة في عمان، والتقاليد العائلية للجيران والصديقات من شركس وفلسطين وأردنيين، وتقاليد وعادات الأردنيين في رمضان والاحتفاء به في عمان في أواخر أربعينيات القرن العشرين إلى نهاية دراستها الثانوية في عام 1953 والتي توجت بحصولها على الشهادة الثانوية ومن ثم قرار والدها للعودة إلى ليبيا بعد الاستقلال لعمله مع حكومة الاستقلال واستقراره في الوطن ،وتصف المؤلفة يوم مغادرتها للأردن التي ولدت فيها ودرست فيها المرحلة الابتدائية والثانوية والصعوبة التي وجدتها في ترك حياتها وعالمها وصديقاتها والأردن التي كانت بمثابة الوطن لها العودة إلى ليبيا ويستمر مشوار التعليم في حياة المؤلفة حيث كان والدها مصرا على تعليمها وأخواتها إلى أعلى المراحل الدراسية ،ويعتبر ذلك تفكير رجل ليبي متقدم وسابق لعصره، في ذلك الزمن حيث كان والدها منفتحا في تفكيره ، ويحمل احتراما كبير للمرأة ويؤمن بمساواتها بالرجل وعدم اختلافها عنه في قدراتها العلمية والتعليمية ، لذا كان أصراره على ضرورة مواصلة ابنته دراستها للمرحلة الجامعية ، وقام بتسجيلها في طلب البعثة للدراسة الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت و ذكرت المؤلفة بعض تفاصيل تسجيلها في البعثة من خلال الأسطر التالية: ” لقد رأى والدي أن تكون دراستي في جامعة إنجليزية أو أمريكية لإيمانه أن إتقان لغة أجنبية تمنح الشخص فرصا لإثراء ثقافته وحانت الفرصة حينما أعلنت النقطة الرابعة عن نيتها إيفاد طلبة وطالبات للدراسة على نفقتها بالجامعة الأمريكية في بيروت وتقدمت بأوراق وقبلت وحصلت على البعثة في بداية أكتوبر سنة 1954 وكان معي أربعة من الطلبة الليبيين هم كامل عريبي ، بشير بلاوين، محمد جميل ،زهري المنتصر وزميل من بنغازي المهدي المطردي ” وبهذا تعتبر السيدة رباب أدهم من الطالبات الليبيات الرائدات في الدراسة بالجامعة الأمريكية في بيروت وحققت السبق كأول فتاة ليبية تدرس في الجامعة الأمريكية في بيروت الأمريكية لبنان والدراسة في جامعة بيروت الأمريكية تستمر الكاتبة بأسلوب سلس ودقيق في رواية تفاصيل دراستها بالجامعة الأمريكية ببيروت وحياتها في القسم الداخلي للبنات مع زميلات الدراسة من سوريا ولبنان ، ويتبدئ بوضوح سعة الفكر وتفتح الذهن المبكر للمؤلفة ،التي ترجع لولادتها و تربيتها في بيت متفتح ، يحض على العلم والمعرفة وعلى استقلالية المرأة ومواصلتها لتعليمها في بلد بعيد ، فهي لاتجد صعوبة أبدا في التأقلم ،مع حياة الغربة ،واندمجت مع الحياة الجامعية ومع زميلاتها وزملائها الطلاب بكل أريحية ، وانسجمت مع أجواء بيروت ، فكانت تقضي عطلاتها السنوية بالسفر وحدها إلى بيت جدتها في عمان، أو بالسفر إلى بيت صديقتها في حمص ،أو بالبقاء في الداخلي والتحول مع صديقاتها في الأسواق أو الحدائق والمسارح ودور السينما ببيروت وتكشف المؤلفة عن توجهها الناصري ، واتجاهها القومي العروبي ،نتيجة تأثرها البالغ بشخصية جمال عبد الناصر في تلك الحقبة من عقد الخمسينيات التي كانت تضج بالأحداث السياسية الكبيرة في الوطن العربي وبالفكر العروبي القومي والناصري ، وتنهي المؤلفة فصول سيرتها عن دراستها في الجامعة الأمريكية ببيروت بلحظة تخرجها بعد أربع سنوات ونصف من الدراسة لتتحصل على بكالوريوس التربية في علم التاريخ في فبراير عام 1959، لتعود بعد ذلك لليبيا للعمل كمدرسة في معهد المعلمات وثانوية طرابلس للبنات جمعية النهضة النسائية بعد أن قامت السيدة حميد العنيزي بتأسيس جمعية النهضة النسائية في بنغازي وانضمت إليها مجموعة من رائدات العمل النسائي في بنغازى، افتتح فرع لها بطرابلس ترأسته مجموعة من الأخوات صالحة ظافر ، عائشة الفقيه حسن ، سيدة الفقيه حسن، خديجة عبد القادر وغيرهن وأثناء عطلة السيدة رباب أدهم صيف 1957 و1958 كما تقول السيدة رباب في كتابها تم انضمامها إلى الجمعية التي أصبحت بعد سنوات سكرتيرة ثم رئيسة لها تعيينها مديرة معهد المعلمات ومدرسة طرابلس الثانوية وتسهب السيدة رباب أدهم في سرد سيرتها الذاتية في هذه المرحلة التي حصل بها إصدار قرار تعيينها مديرة لمعهد المعلمات ومدرسة طرابلس الثانوية في عام 1962،لتبدأ ً بذلك مرحلة عطاء طويلة للتعليم ولتكون بذلك أول ليبية ، تستلم منصب مديرة معهد المعلمات وثانوية طرابلسً للبنات بعد قرار تلييب الإدارة في بداية ستينيات القرن العشرين ، ورغم جسامة المهمة وخاصةلأنها كان عليها الاهتمام بالبيت أيضاً بعد زواجها وإنجابها أول أبنائها ، إلا إن دعم زوجها الإذاعي المثقف السيد عيسى بالخير ، كان له دور بقيامها بمهمتها فى إدارة المعهد والمدرسة بنجاح كسكرتير رئيسة جمعية النهضة النسائية في طرابلس ، وقيامها بمهمات في الجانب الاجتماعي للمرأة، وحضورها مع رائدات الجمعية النسائية في بنغازي وطرابلس ومشاركتهن في الملتقيات النسائية للمرأة مثل مؤتمر الأتخاد النسائي التونسي عام 1960 ومؤتمر المرأة الأفريقي -الآسيوي سنة 1961 قصة حياة السيدة رباب أدهم في كتابها دروب في الحياة ،هي قصة حياة رائدة من رائدات التعليم في بلادنا أعطت للوطن حصيلة دراستها وتعليمها العالي في بواكير بناء دولة الاستقلال وقادت صرح مؤسسة تعليمية خاصة بالفتيات في فترة زمنية كان تعليم الفتيات فيها يعد عيبا ومن المحرمات، ولكن السيدة رباب أدهم بعقلها وفكرها وعلمها صنعت اسما للمرأة الليبية وكان يمكن لعطائها أن يستمر لو لم يحدث الانقلاب المشؤوم ، الذي عمل على التدخل في الشأن التعليمي وفرض في عام 1976على طالبات الثانوية والمعاهد حصص الدراسة العسكرية

وارتداء الزي العسكري ،وتدخل اللجان الثورية في مسيرة العلم والتعليم والمدارس بعقد دوراتهم العقائدية التي شوهت العملية التعليمية في ليبيا وعدم احترامهم لمسيرة السيدة رباب أدهم واحترام قراراتها وحريتها في إدارة المدرسة كما كانت تفعل في العهد الملكي ، ووصلت ذروة التخريب الممنهج للتعليم في ليبيا وفوضويته ، حين صدرت قرارات الزحف الثوري على مؤسسات الدولة وإدارتها من عناصر اللجان الثورية الذين لا علاقة لهم بالتخصص فكان يوم الزحف على إدارة المعهد في عام 1981،ونتيجة لكل هذه القرارات التخريبية الفوضوية الممنهجة للتعليم ،قررت السيدة رباب أدهم التقاعد ، ثم سافرت مع زوجها بعد خسارة شركته وأعماله نتيجة الزحف الثوري أيضاً إلى مصر ،ثم إيطاليا ، ورجعت في بداية ثورة 17 فبراير ، لتكتب سيرة حياتها العلمية والتعليمية، التي توثق لتاريخ نضالي للمرأة في مجال العلم والتعليم وحقوق المرأة عبر نشاطات جمعية النهضة النسائية ، عبر كتابها الذي يعتبر وثيقة أرخت لمراحل وعقود طويلة من العمل المهني والاجتماعي من خلال سرد أدبي بسيط وسلس وجميل.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :