من المحبرة الى المقبرة

 من المحبرة الى المقبرة

بقلم :: ميلاد منصور الحصادي

 في الذكرى الخامسة عشر لرحيل الشيخ مصطفى عبد العزيز الطرابلسي

(( 1  ))

عصىٌي على النسيان من حمل قنديله يجوب  القرى والبراري ،والوديان ينقش في عيون الأطفال أول حروف الحلم ،عصيٌ على النسيان من أيقن بروعة الحرف وحلم بالغد فكان معلماً…عصيٌ على النسيان من منح للناس مساحة قلبه ، وأسكنهم حنايا روحه ، وسار بهم رويدا وريدا ،يدلهم على الطريق ،ويمسح عنهم تعب السنين العجاف عصيٌ على النسيان، من قال كلمة الحق ،ولم يهادن أو ينافق ، ولم تغريه الدنيا بزخارفها ، فعاش فيها زاهدا ،وساجدا مبتهلا.

عصيٌ على النسيان من عشق الورق والحبر، وروح الكلمات ؛فأيقض النفوس النائمة ،والعقول الخاملة ،والعيون المغمضة ، عصيٌ على النسيان ،من أحبه الناس ؛فكانوا يتوافدون عليه بالسلام ،والتحية وهو سائر وهو جالس وهو في بيته …يهش لهم يستقبلهم يسأل عنهم ، يعلمهم أينما كانوا في الزوايا فى المدارس ،في المساجد فى الطرقات ،، عصيٌ على النسيان، ذلك الذى دفع ضوء عينيه، وجمرة عمره ثمنا للعلم ،والمعرفة ،من قال لأحد أصدقائه يوما {أنا من المحبرة الى المقبرة } .

عصيٌ على النسيان من عشق “درنة” فكتب لها أروع قصيدة ،وخلدها بين المدن حين سطر لها كتابه الرائع ( درنة الزاهرة قديما وحديثا ).

عصيٌ على النسيان ابن درنه ،ومؤرخها ،وعاشقها الشاعر، والباحث والفنان والفقيه الشيخ “مصطفى عبد العزيز الطرابلسي؛ الذى أيقض فينا مواكب الفرح، وعناقيد الحب ،وعلمنا أن التحدي والعزيمة هما سلاح الإنسان .

(( 2  ))

ولد الشيخ مصطفى الطرابلسي بمدينة درنه عام 1922 ، تلقى مبادئ القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القران الكريم فى (كتاب والده )، التحق بالتعليم الابتدائي فى المدارس الايطالية ، ثم ترك المدرسة بعد اتمامه الصف الرابع ،لوفاة والده سعيا وراء الرزق ، إلا أنه عاد بعد ذلك إلى الكتاب ،وحفظ القرآن الكريم كاملا، مع حفظه الكثير من أمهات الكتب ،فى اللغة والفقه ،والتوحيد على يد الشيخ (محمد بوسيف الهنيد )وكان رفيقه فى الكتاب الشيخ (محمد حمد القد يري )

عام 1943 التحق بالمدرسة الخاصة التى أقامها الشيخ المرحوم ( عبد السلام بن عمران ) حيث درس على يديه النحو والصرف ودروسا في الفقه

وفى عام 1946 اشترك في مسابقة لتعين مدرسين بالمرحلة الابتدائية، فنجح فيها ،وتم تعينه مدرسا في مدرسة (القيقب )، وهى قرية تقع غرب درنة بحوالي 70 كم حيث مكث فيها عاما وأربعة أشهر ، نقل بعدها إلى مدرسة “القبة الداخلية”، وهى قرية تبعد عن درنة حوالى 40 كم من جهة الغرب ،ومكث بها سنتين ، عام 1950 نقل الى مدينة طبرق ،ودرس فى مدارسها، وأسند له التدريس ،فى أول فصل خصص لتعليم البنات .

عاشر التدريس مدة ثمان عشرة سنة تنقل فيها الشيخ من القيقب إلى القبة وسوسة وطبرق والبيضاء ثم رجع إلى درنة .

سنة 1963 انتدب مشرفا فنيا لفرع الإذاعة المسموعة بدرنة ، ثم انتدب للتوجيه التربوي للمرحلة الابتدائية حتى سنة 1979م حيث أحيل الى التقاعد اختياريا .

كان لديه إلمام باللغة الإيطالية مكنته من ترجمة فصول من التاريخ الليبي ، اتجه إلى الكتابة والتأليف ،وساهم بإلقاء المحاضرات في شتى فروع المعرفة؛ فله دراسات خاصة في مجال الأدب والتاريخ والتربية وعلم النفس ، بجانب دراساته في علوم القران والفقه الإسلامي ، وقد قرض الشعر وله العديد من القصائد .

له العديد من البحوث والمؤلفات فى شتى فروع المعرفة ومن أثاره العلمية

  • ملخص أحكام العبادات 6 أجزاء
  • أحكام التلاوة وآدابها وفضائلها
  • أحكام الصوم
  • درنه الزاهرة قديما وحديثا
  • كفاح وانتصار تمثيلية وطنية تاريخية من عشرة فصول
  • بحوث وشواهد
  • من فيض القلم
  • من رشحات القلم
  • جولة مع الخط العربي
  • احكام الزكاة بالاشتراك مع الشيخ محمد القديرى .

وفى يوم الاثنين الموافق 2/9/2002 انتقل الشيخ مصطفى الطرابلسي الى رحمة الله عن عمر يناهز الثمانين عام .

(( 3  ))

ساهم الراحل الكريم في الحياة الثقافية بمدينة درنه ،مساهمة مهمة ومؤثرة فى كافة علوم المعرفة ، وشكل حضوره الثقافي والديني رافداً قويا لحركة الثقافة فى درنة ، وكان بما يقدمه من آراء وأفكار وما يطرحه في محاضراته ،وخطبه ودروس الوعظ ؛التى يلقيها فى المساجد والأندية والمنتديات الثقافية عظيم الأثر فى نفوس متتبعيه ،لما فيها من أفكار وما تدعوا إليه من تسامح ووسطية ومحبة ،ودعوة للحب العمل ،والاطلاع على كافة الأفكار والآراء العلمية ،وترك التوكل والتقوقع في دائرة واحدة ،وعدم الانفتاح على الآخر وعلومه .

لقد كان الراحل الكريم يرتبط بعلاقة وثيقة بمجتمعه، وبمدينته ،وكانت لديه القدرة على التواصل مع جميع الناس

وقد كتب الكثيرون عن الشيخ بعد رحيله وقام الأستاذ “عاشور الدمنهوري” بجمع بعض ما كتب عنه فى كتاب بعنوان ((من أعلام درنة الزاهرة الشيخ مصطفى عبد العزيز الطرابلسي ،سيرة ومسيرة)) حيث يقول الاستاذ صلاح عطية الحصادى (( من رشحات قلم كتاب رغم قلة عدد صفحاته جدير بالقراءة والاطلاع ، كتب بتركيز شديد ، وبلغة عالية النبرات مكثفة ، تختزل الكلمات اختزالا ، تنطق بالحكمة والموعظة ، يذكرك صاحبها بأسلوب المنفلوطي والرافعي.

أما الأديب والقاص [ حسين نصيب المالكي ] فيقول (( إن الكتابة في موضوعات مختلفة وعناوين متعددة ،وجمعها في كتاب واحد طريقة اتخذها المؤلفون القدامى ،وهذا ما فعله أديبنا الراحل “مصطفى الطرابلسي” ، فقد صدرت له العديد من المؤلفات في شتى صنوف الأدب ، منها كتابه درنة الزاهرة / بحوث وشواهد / من رشحات  قلم وغيرها ، أما كتابه { من فيض القلم } فهو متنوع وشائق ويتضمن العديد من الموضوعات ، حيث تحدث المؤلف عن سعادة الطفولة وذكرى أيام الصبا ، ثم يتطرق إلى نور الإيمان وعن نوادر وغرائب أهل الهوى والعشق ،ويتحدث عن الوظيفة والموظفين وما تجره الوظيفة من تعطيل للمواهب وملكات الإبداع ، هذا بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الأخرى ، عن المعلم ورثائه لفقيد الوطن والكشافة المرحوم {على الزائدي } ، ومقالات عن مختارات من الشعر القديم ، لا تشعر بالسأم أو الملل وأنت تطالع صفحات هذا الكتاب ، الذي يمتاز بجودة التعبير ودقة التصوير والبلاغة ، فهو كتاب مفيد.

أما الأستاذ المرحوم (  محمد إبراهيم دخيل )فبقول عن الراحل الكريم [[ لا تقتصر أهمية الشيخ مصطفى الطرابلسي عن علمه الغزير وثقافته الواسعة وأدبه الجم … إنما كان يتميز بانطلاقه كمفكر حر ،وإنسان تقي ورع متدين ، سداه ألإيمان بالقضاء والقدر ولحمته طاعة الله ورسوله في السر والعلن ، لقد كان انسانا خيرا غيوراً ينادي بتقارب الناس الواحد بجانب ألآخر لخلق دنيا من المحبة والرحمة والإشفاق ،،وكان كثيرا ما يردد على مسامعنا قوله (( إن الدين نافع للجنس البشري ،لأنه يكبح جماح الحيوان المستكين في أعماقنا ،، ويجب أن يستخدم لأغراضه وأهدافه ومراميه التى سنتها شريعة الله ونشرها رسله الكرام على العالمين)) وكان رحمه الله مستقلا بالرأي  إلى حد مخالفته للأعراف السائدة، والتقاليد المقررة في المجتمع والمجاهرة بمعتقده ،فقد كان لا تأخذه في الحق لومة لائم ،، لقد كنت عندما أزوره أجده مفكرا أو راكعا أو ساجدا أو مبتهلا ، وكان يستقبلني بقوله { من المحبرة إلى المقبرة} ، والأديب و الصحفي محمد بوسويق كتب عنه يقول [[ مدينة في واحد ، كانت تمثل لدى أجمل وأدق إجابة ،وأكثر اختصار في التعريف بهذا الرمز الأدبي والتاريخي ، الذي استطاع خلال عشرين عاما أن يجمع تاريخ درنه القديم ، منذ النشأة ومنذ قدوم ألإغريق إليها قبل الميلاد وحثي نهاية الستينيات القرن العشرين ]]

الشاعرة (نعيمة الزني ) كتبت عنه {{ نحن نقول للذى اتكأ على ذاكرة مدينته ، منصنتاً لهدير شلالها ، إن أحلامك التى لم تحققها ستكون هواجس أفكارنا ، وبصرك الذى اختلسته درنه لتكتحل به عيونها سيظل عطاؤه زاخرا ودفقاً جميلا ، تتزين به وتمشط به جدائلها ، وتمنحك من فيضها اسما فى ذاكرة الأجيال.

والشيخان سالم أحمد الماقوري واحمد ميلاد قدود فيقولان فى مقدمة كتاب (أحكام الزكاة ) الذى كتبه الراحل مع الشيخ محمد حمد القديري أطال الله عمره ((وقد انتهج المؤلفان في كتاب { أحكام الزكاة } ضرباً جديداً من التأليف ومنهجاً فريداً من التصنيف والتفصيل والتنويع في شرح أحكام الزكاة ،لم يسبقها في ذلك إلا القليل مما جعل المكتبة الإسلامية لم تعهد الكثير من مثل هذا التنسيق والترتيب ،ولم تحض بمثل إخراجه في تاريخها الطويل على كثرة ما يزاحمها من مؤلفات وأسفار .

الشاعر (على الخرم )في كتابه ((شعراء من درنه // مخطوط ))  يقول {{

صفا جوها” عنوان قصيدة للشيخ مصطفى الطرابلسي ،يصور فيها فرحته وفرحة شعبه بسقوط مؤامرة مشروع { بيفن سفورزا} الرامي إلى تقسيم ليبيا إلى مناطق نفوذ أجنبية ،يقول الشيخ في أول قصيدة من شعره كتبها عام 1949

تفككت الأغلال وانقشع الشر    وشدت عرى الآمال وانشرح الصدر

فقرت وطابت بالأماني أنفس    قضى الله أن العسر يعقبه اليسر

وبرغم الأهمية التاريخية لهذه القصيدة ،أذ أنها تسجل مرحلة من مراحل نضال شعبنا ، وبرغم إحساسنا بحرارة العاطفة وصدق التعبير فيها ، وبرغم كشفها عن روح وطنية عالية ومشاعر طيبة ،يكنها الشاعر لوطنه ومواطنيه ، ألا أن أثر مجارة الأقدمين فيها واضح وجلي، في الشكل والبناء والأسلوب، وحتى الصورة ،أنه لا يقف عند مجارة الجيل الذي سبقه ، بل يذهب إلى البعيد ، ألي عصر من أزهى عصور الأدب العربي في  قرونه الماضية ،، ألا أنه العصر العباسي، فيتراءى  لنا من خلال القصيدة ، ظلال الشاعر أبى فراس الحمداني في رائعته التى يقول فيها

أراك عصى الدمع شيمتك الصبر    أما للهوى نهى عليك ولا أمر

وللدلالة على ذلك قارن بين قول الطرابلسي فى القصيدة

فهبت هواصير و للحق وقفة      فأما جلاء النصر فيها أو القبر

وقول أبى الفراس الحمداني

ونحن أناس لا توسط عندنا      لنا الصدر دون العالمين أو القبر}}

الأديب والفنان ( محمد اسويسي ) يقول عن الشيخ مصطفى الطرابلسي في مقال نشره على موقعه فى {{ الفيس بوك }} ((المؤرخ الزاهر ، وصفة عصية على النسيان،ساكنة ما وراء القراءات ، فصارت وثائقه حججاً،وذكر اسمه أيقونة صدق،و تأريخه تعويذة تدوين ، كتب الأشياء من داخلها ،حين رآها من أعلى، أمعن في حضارات موطنه ، نشداناًعن الحقيقة، حاجاً لها ،طوافاً ساعياً بين صفا الحرية ومروة الحق….زاهر الزاهرة لم تجذبه توهة العمائم ،ولا رجاح بهتان المجالس، فأمعن يقارع الخواء ، نشداناً عن قبس الدلالة،فألهمه اللطف سر ورده ، حين المعاش والسبات ،حلت به الحقيقة وحل بها ، فدعته المنابر ، طأطأت له الدرجات ، ليعتلي صهواتها  مستنيرا بصولجان نشيد الخالق ، لاالمخلوق، فإذا كانت مأساة الإنسان الإرغام ، فمعجزة العارف الزاهد ، هي الرفض ، فالمعرفة تجب الخواء.

رحم الله الباحث والأديب والمؤرخ والشيخ “مصطفي الطراباسي”

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :