ساعة خارج العزلة

ساعة خارج العزلة

سلوى الرابحي

عبرت شارع “مرسيليا” بسرعة المطر المتدفق كبلوغ النشوة، كان الماء يروي أرضها العطشى  عبرت بخطوات النبض المسموع كضرب الطبول.

اتّجهت إلى شارع الحبيب بورقيبة تستجدي الواقفين الأولويّة في الحصول على “تاكسي” لأمر لا تستطيع معه انتظارا فلقاء حبيبها أولويّة قصوى يفوق أولويّة المريض الذاهب  إلى المستشفى أو الشيخ الخائف من الموت خارج بيته في يوم عاصف.

-” الشوق حالة طوارئ أيّها الواقفون كصنم أمام الحياة”، قالت ذلك في نفسها واندلقت داخل سيارة الأجرة مبللة بمطر نوفمبر الثائر.

–           إلى البحر أيّها السّائق

–           أيّ بحر في هذا اليوم الممطر، قال ذلك بنبرة مرتجفة كالخائف من الغرق

–           ها قد بللني المطر، لم لا يبللني البحر، الماء  بداية الحياة. إلى شاطئ حلق الوادي.

قال السائق مستهزئا: – هذا الكلام لا يليق بامرأة في الأربعين، لا بدّ أن تكوني أكثر رصانة.

أجابته بصوت خافت : لكن عيني تبرقان باللحظة، لا زمن خارج الشوق.

اختار السائق الصمت واختارت أن تفتح حقيبتها اليدوية و تعدل ماكياجها متمتمة: لا يليق أبدا بحبيبة ملك الكتابة أن تبدو في الأربعين.

نزلت من السيارة ولكنها لم تتجه نحو البحر بل ذهبت إلى مقهى أركانه بلورية يطل على البحر ، وحيدة جلست إلى طاولة منزوية أسرعت لتصل قبل موعدها بساعة لتتمتع بلذة الشوق وإغراء الانتظار.

مثل فراشة تحوم حول الضوء، كانت ذاكرتها تدور حول ابتسامته ولم تستطع أن تصعد إلى الومض القاطن في عينيه، كانت خائفة من أن تترك ابتسامته وحيدة في عزلتها. فلا تجدها إن عادت إليها بعد سهو أو فتنة بعينيه الآسرتين.

فاجأها النادل بصوت لطيف،”قهوتك سيدتي”،  فقد ألف وجودها بذلك المكان، الطاولة  عينها والطلب عينه.هي تحب القهوة  ولا تطلب سواها كمحب وفيّ. لا تغيّر الأماكن كثيرا وتكتفي بصفوة الأصدقاء.

نظرت إلى الغروب قائلة في نفسها: يظن الناس أنك نهاية الضوء أما أنا يا صاحبي أراك بداية الإشراق، كم أحب شغف البدايات. وكم يضيء قلبي نجم بهي سوف يطل بعد حين. كم اشتقت إليك أيها الروائي يا ملكي. كانت تترشف قهوتها كمن يترشف الغروب عينه، وتذكرت كيف كان الروائي يضيء عتمة الوحدة بسجنها. كان حضوره كثيفا كالإبراق. وكأنه الحقيقة الوحيدة والسجن وهم كقضبان الماء تنزل من نبع العين متدفقة ببريق الحرية. هو الحقيقة الوحيدة التي ترافقها والسجن محض فكرة خلقت شخوصا تراها ولا تراها حتى ظنت السجينات أنها مسكونة بجن قد يؤذيهن فابتعدن عنها قدر الإمكان.

بقيت شهرا كاملا تحدث نفسها بأن انتظريه، انتظري شغف المحب، شغف اللقاء بعد لسع الفقد، انتظري عناقا محموما ممزوجا بعرق الإرهاق، انتظري عزفا جديدا للطين، عزف المياه العميقة تنشد صوت التراب وتحل به كالإشراق.

جاء حكمها بعد شهر كامل يبرئها من جريمة لا تريد تذكر تفاصيلها

لم ينتظرها أمام السجن واكتفى بالرد على رسالتها بالهاتف، ” أراك غدا في المكان نفسه ، على الساعة السابعة مساء.

غارقة في ذكرياتها أطل حبيبها ” الروائي الملك” مبتسما ابتسامة خفيفة، ومدّ يده ليسلّم عليها متجاهلا نظراتها التي كادت أن تقفز قفزا لتلتحم بعينيه، لكنّهما كانتا خاليتين من جمر الاشتياق، مكتظّتين بالهروب.

–           من هذا الشخص الذي أمامها؟ شعرت لوهلة أنّها تراود شخصا غريبا، شخصا لم تقبله يوما بشغف المحب الخائف من الوداع وكأنه لم يكفكف دمعها في حزنها قائلا: – أنا الفرح الذي يعشش في عينيك فلا تذرفي دمعا يجرّح قلبي.

–           تركت سيارتي بالمستودع ساعة فقط، لي موعدٌ لاحق مع صديقة لي.

حبست أنفاسها كمن وجد نفسه غريقا في غضب البحر الذي تطلّ عليه ، قالت:

–           “غرقى وقلب الماء صحراء قاحلة” ثم صمتت ولم تضف شيئا.

–           لماذا تحاصرينني بالأسئلة؟  كنت منعزلا أقاوم رغبة لقائك، أصبحت أسيرا حقيقيا لك لا أكتب عن سواك. أريد لكتاباتي أن تكون حرة حتى من الحب، حرة من الرغبة، لا أرغب الآن سوى بالعابرات، لا أرغب سوى بالتحليق وحيدا بين أشجار الحياة. إنها لذة العزلة . العزلة تقيك شر الإلتزام والوصاية. أراك بهيّة لكن شخصياتي في الرواية الجديدة مختلفة إنها تليق بحبيبة سابقة. ولست خائنا أيتها الشاعرة لشخصياتي أبدا، لم أحدد موعدا معك في البيت كي لا أقع في شرك الغواية، وحددت موعدا لها بعد ساعة من موعدك حتى أتمكّن من مصارحتك بانتهاء علاقتنا التي أراها بهيّة لكنها ليست شهيّة لكتابة رواية جديدة.

–           لم تستطع عيناها أن تذرفا دمعا لكن السماء الممطرة في الخارج عيناها.

–           أنا الكثافة قالت، يمكن أن تكون حبيبتك القديمة – الجديدة أجمل وأشهى وأكثر أناقة ربّما،، لكنّك لن تجد شخصيّة أقامت في المعنى مثلما أقمت. لقد كان نصك عنّي في روايتك الأخيرة جميلا، لن أكون عابرة بذهن القارئ أيّها الرّوائي.

–           “آسف” قال، “لا بدّ أن أذهب، حدّدت ساعة واحدة للسيارة” اتجه إلى النادل ودفع فاتورة قهوتها وأسرع خارجا دون وداع.

التصقت بالطاولة كمن يضم صديقا ويبكي على صدره، وتذكرت روائيّا آخر أحبّها بعنف ولم تستجب لحبه الجارف، سأكون عابرة في نصوص شتّى قالت، القاطنات خلايا القلب يسبّبن جراحه والعابرات يضمدن النزيف ويمررن إلى قلب آخر. أخذت هاتفها بعنف الجراحات المتكررة لمواعدة الروائي الذي ألح في طلب ودها سابقا . ثمّ سرعان ما قطعت المكالمة صارخة:  لا يليق بحبيبة الملك أن تحبّ مجرّد راع في الكلمات لا يليق بشخصيّة نسجها الروائي الملك أن تُكتب في رواية أخرى أقل ابهارا.

فتحت حقيبتها اليدوية وأخرجت قلما لا يفارقها  وكتبت على ظهر الفاتورة:

العابرات بمتعة الكلمات

هنّ الماء يسكب خالدا في الرّوح،

 روحك أيّها المتعدّد  المسكون بالمعنى

تُسمّى …قارئا

يا ماكثا في العابرات إلى الأبد.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :