- قصة قصيرة :: نورهان الطشاني
- في إحدى الأزقة في منطقة الجبيلة وسط مدينة درنة طفل في العاشرة من عمره اسمه سالم طويل القامة شديد السمرة شعره أسود كثيف يرتدي قميصا أخضرا باليا يطرق باب أحد البيوت القديمة وينادي ” سليمان ، ياسليمان ” يفتح الباب طفلٌ صغير وجهه ملائكي وصوته ناعم قائلا : سليمان يراجي فيك عند المدرسة وخذا العدّة معاه . ذهب سالم من أجل أن يقابل سليمان وهو يركض والفرح يكاد أن يشق وجهه ، عبر الزقاق الطويل في لحظة حتى وصل إلى سليمان الجالس على الرصيف أمام مبنى المدرسة . سليمان طفل في الثالثة عشر من عمره قصير القامة ضعيف البنية ، تأكل نصف وجهه وحمة بشعة تشوّه نقاء ملامحه ، يتيم الأم والأب يسكن مع جدته هو و أخاه فرج ، سليمان طفل ذكي يحب تجربة كلّ شيء ، طفل يقضي معظم أوقاته في الشارع ، علّمه الشارع الكثير وكان أول ماتعلمه من الشارع الشجاعة . تقدم سالم إلى سليمان وأعطاه قميصا أخضرا ليرتديه ثم أردف قائلا ” توا طقيت عليك في الحوش فتحلي الباب فرج وقال أنك طلعت ” ضحك سليمان ، ارتدى سريعا القميص الأخضر وما إن أخرج رأسه من القميص إلا وقد رأى فرج يحاول الاختباء خلف إحدى السيارات المركونة منذ زمن ، تقدم سليمان يتسلل بالقرب من السيارة وشدّ فرج من أطراف قميصه قائلا إياه ” فيش إدير هنا ، كم مرة قتلك ماتلحقنيش ، امشي روح هيا راه نضربك ” ذهب فرج باتجاه البيت وهو يبكي ، تقدم سليمان نحو العدة وبدأ بتريب البضاعة ، أخذ ثلاثة ألواح خشبية كانت مرمية على الأرض ، ثبتها على شكل مربع ثم بدأ بوضع البضاعة عليها وهكذا تكون قد اكتملت الدكانة . سالم : جبت معاي خمس باكوات بارود ، توا انبيعوا العشرة بربع وجبت عقود الياسمين انبيعوهن لأصحاب الحافلات وهم جايين للمدرسة سليمان : تمام ونا جبت البطش وعديتهن مية ، قلت انبيع العشرة بخمسين قرش ، هكي نقدرو نلموا حق السيارة الحمرة . بدأ الأطفال يشترون البارود والبطش وسالم وسليمان تغمرهما السعادة بذلك ، جاء طفل مشاغب و بدين معه ثلاثة أطفال آخرين يشكلون عصابة ، تقدموا نحو سليمان وهم يستهزؤون على مكان وجود الوحمة ، نظر سالم إلى وجه سليمان وكيف أنه يبدو حزينا لكلماتهم ، التقط الحاجرة من الأرض وأخذ يقذفهم بها ، وبدأت المعركة هنا ، دسّ سليمان البضاعة في الحقيبة ، أخذ الثلاث لوحات ثم ذهب مسرعا عند السيارة المركونة ووضع الحاجيات هناك ، التقط الحجر من الأرض وبدؤوا يتراشقون الحجارة فيما بينهم حتى هرب الصبية ، تمدد سليمان على الأرض وهو يضحك ، تمدد سالم أيضا بجانبه تأخر الوقت .. نهض سليمان و مدّ يده إلى سالم ، حمل سليمان الحقيبة وأخذ سالم الثلاث لوحات ، ذهبا والسعادة تغمرهما بانتصار اليوم ، أردف سالم قائلا ” سليمان هات العدة وخوذ الفلوس وعدي لمحل الألعاب قبل مايسكر ” سليمان : هات الفلوس نمشي نجري وأنت اسبقني للحوش ” ذهب سليمان مسرعا إلى محل الألعاب ، أخذ السيارة الحمراء التي تمناها فرج ، دسّ السيارة تحت قميصه وذهب يركض يضحك حتى وصل إلى البيت ، جاء سالم خلفه بعدما وضع البضاعة في منزله ، طرق سليمان الباب ، فتح فرج الباب و……. مفاجأة . بعد عدّة أيام ….في صباح مشرق و على صوت زقزقة العصافير نهض سالم باكرا من أجل أن يشتري الخبز قبل أن يزدحم المخبز ، وفي طريقه إلى هناك رأى صديقه حسن وذهبا معا ليشتريا الخبز قال حسن ” هيّا أسرع ياسالم خلينا نوصلوا قبل ماتزحم ومانحصلوش خبزة اليوم و أنت مش غابي في الطابور اللي توا نلقوه قدامنا كان تأخرنا أكثر ” انحنى سالم من أجل أن يعقد ربطة حذائه ثم أردف قائلا ” خليني نربط الكويشة اكويس ونمشو جري للكوشة ” . اشترى كلّا من سالم وحسن الخبز وفي طريق العودة وعندما وصلا إلى مفترق الطريق قال سالم لحسن ” راك تنسى اليوم ، نبي انتكي عليك بعد أذان الظهر أنت وباقي اعيال الشارع اتفقت أمس مع سليمان و كل شيء جاهز وتمام” . سليمان في الساحة التي تقع أمام مسجد الصحابة وسط مدينة درنة تحت أشعة الشمس يركل علبة عصير فارغة في ملل ينتظر وصول سالم ، تأخر سالم هذه المرّة ، أمرٌ عجيب فهذه ليست عادته ، جلس سليمان بالقرب من عتبة الباب الخارجي للمسجد بجانب ألواح خشبية كثيرة كان قد جمعها ليلة البارحة ، مرّ رجل طويل القامة عريض البنية يحجب الشمس عن سليمان حتى أنّ سليمان لم يستطع رؤية وجهه و لم ير منه إلّا ظلّ شعره المنكوش من الجانبين ، صرخ الرجل قائلا ” صبي من هنا ياولد ، قاعد معارض الطريق ، خوذ اللوح وصبي قبل مانضربك ” نهض سليمان وهو يتمتم بأين أنت ياسالم أنظر ماالذي حدث معي بسببك ، وما إن نهض سليمان إلا وقد سمع صوت صفير سالم ، أدار سليمان بوجهه إلى الوراء فرأى سالم بقميصه الأصفر الفاقع ومعه جيش من الأطفال في صورة مبهجة يرتدون ملابسَ ملونة ، منهم من كان طويلا ومن كان قصيرا ، منهم البدين ومنهم النحيف ، منهم الأبيض ومنهم الأسمر ، كانوا يختلفون في هيئاتهم ولكنّهم يتشاركون جميعا في حبهم للعب والسرور ، أخذ سالم وسليمان الألواح الخشبية وقاموا بتوزيعها فيما بينهم ، قسّموا أنفسهم إلى فريقين ، فريقا يقوده سالم و فريقا يقوده حسن ؛ حسن طفلٌ في الخامسة عشر من عمره وهو أكبرهم سنا ، شعره الذهبي يلفت الأنظار ، طفل يحب المزاح كثيرا صاحب وجه بشوش قصير القامة جدا حتى أنّه يبدو أصغرهم في السن ، سريع الحركة و الكلام أيضا ، يعمل مع والده في المزرعة ، يساعده في رعي الغنم ، يملك كلبا يفوقه في الحجم أسود اللون يصاحبه أينما ذهب فحسن يحبه كثيرا ويقضي معظم أوقاته في اللعب معه . بدأت لعبة الحرب ، تمركز الجنود في أماكنهم ، كلّا من سالم وحسن وضع خطة حرب ، جلس كلب حسن تحت ظلّ شجرة في طرف الساحة ومعه فرج والذي كان يلعب بسيارته الحمراء تارة و تارة ينظر إلى الكلب بحذر خشية منه . صرخ طفل وهو يشير بالسبابة قائلا ” امسكوا سلاحكم كويس “ثم صرخ الآخر بـ ” هجووووووووم ” تفرّق الجنود وبدأ الأطفال يصدرون أصواتا من أفواههم ” طاف طاف طاف ” يرمي أحد الأطفال بنقبلة قائلا ” بووووووم ” فيقع خمسة أطفال على الأرض ، بحركة سريعة ينبطح سالم
بحركة سريعة ينبطح سالم على بطنه وهو يصوّب بسلاحه ناحية سليمان ، يركض حسن بإتجاه سالم ، يخطف سلاحه منه قائلا ” هذي نهايتك ياسالم ” سالم يزحف سريعا ناحية أقرب شجرة فيختبئ خلفها ، يلتقط أنفاسه ويعاود اللّعب يصوّب بيده على أنها مسدّس . وقع سليمان أرضا بحجة أنه قد أصيب برصاصة في كتفه ، ينحني حسن كي يتفقد حال سليمان ، يصرخ سالم بـ ” طاف طاف “. ، ثم صوت يخترق مسامع الكلّ ، صوت لم يصدر من فم أحد ، صوت “طاف” حقيقية ، قميص سليمان الأبيض ملطخ بالدم ، يقع حسن فوق سليمان والدم يغطي وجهه ، سالم يركض من بعيد ، الساحة فارغة من الأطفال هرب الجميع و كلب حسن لم يتوقف عن النباح ، وفرج يلبث مكانه يبكي ، يصرخ سالم قائلا ” حسن بلاش بصارة صامطة نوض هيّا ” سليمان يجهش بالبكاء يزيح حسن من فوقه و بصوت مرتجف يردد ” حسن ما يبصرش ، حسن ما يبصرش ، مات حسن برصاصة طايشة يا سالم ” .