- مالك المانع.
في مشهدٍ قد يعيد تشكيل خريطة القوى العالمية ، تشهد المنظومة المالية الدولية تحولاً جيوسياسياً واقتصادياً واضحاً و غير مسبوق ، هذا التحول قد يُنهي هيمنة الدولار الأمريكي والذي استمر منذ اتفاقيات [Bretton Woods] عام 1944، حيث ظل الدولار العملة العالمية المسيطرة على التجارة والاحتياطيات النقدية والسلع الاستراتيجية مثل النفط والذهب .. و اليوم، تبرز عوامل و إرهاصات متعددة تهدد هذه الهيمنة، منها وصول الدين العام الأمريكي إلى 34 تريليون دولار مع توقعات بأن يبلغ 166% من الناتج المحلي بحلول 2054، مما يهدد ثقة العالم في الاقتصاد الأمريكي. كما أن استخدام الدولار كسلاح ضد خصوم أمريكا، حيث بلغ عدد الكيانات الخاضعة للعقوبات 9400 كيان عام 2021، دفع العديد من الدول للبحث عن بدائل. وفي موازاة ذلك، يتصاعد نجم تحالفات بديلة تقودها الصين وروسيا، حيث يتزايد التعامل بالعملات المحلية بينهما لتصل إلى أكثر من 90% من التبادل التجاري، مع سعيهما لإنشاء عملة مشتركة لدول بريكس. كما تشهد دول مثل الهند وباكستان تحولاً ملحوظاً نحو الاتفاقيات التجارية الإقليمية بالعملات المحلية رغم التوترات التاريخية، بينما تدرس المملكة العربية السعودية وإيران تسعير النفط بعملات بديلة، مما قد ينهي نظام البترودولار القائم منذ 1974. وتتبنى دول جنوب آسيا وأفريقيا اتفاقيات تبادل تجاري بعملات محلية مدعومة بصناديق استثمارية مشتركة، بينما سجلت مشتريات البنوك المركزية من الذهب أرقاماً قياسية بلغت 1045 طنًا عام 2024 كملاذ آمن بديل عن الدولار.
في هذا السياق، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لما بعد هيمنة الدولار، أولها تحول التجارة العالمية إلى نظام متعدد الأقطاب حيث تتحول إلى كتل إقليمية باستخدام عملات مدعومة بالذهب أو عملات رقمية. وثانيها حدوث صدمة اقتصادية مع انهيار مفاجئ للدولار يؤدي إلى ارتفاع التضخم عالمياً وارتفاع تكلفة اقتراض الولايات المتحدة، مما قد يجبرها على خفض الإنفاق العسكري والاجتماعي. وثالثها العودة إلى نظام ذهبي جزئي حيث تتبنى البنوك المركزية الذهب كغطاء للعملات، مع توقعات من مسؤول روسي بأن يصل سعر الأونصة إلى 35 ألف دولار. ورابعها تبنّي عملات رقمية بديلة مثل البيتكوين أو عملات البنوك المركزية في المعاملات الدولية.
أما بالنسبة لتأثيرات النظام الجديد على العالم، فمن المتوقع أن تشهد الولايات المتحدة تراجع النفوذ الجيوسياسي وأزمات مالية داخلية وتراجعاً في الإنفاق العسكري، بينما تحاول أوروبا تعزيز مكانة اليورو كعملة بديلة لكنها تواجه ضعفاً بسبب التشرذم السياسي. وستواجه الدول النامية معاناة من تقلبات العملات البديلة لكن مع فرص جديدة للاستقلال الاقتصادي، بينما يتحول الشرق الأوسط إلى مراكز مالية إقليمية مثل دبي والرياض باستخدام عملات مدعومة بالطاقة.
و في النهاية، يشبه التخلص من هيمنة الدولار رحلة انهيار الجنيه الإسترليني بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أنه لن يكون عملية [overnight process] بل تآكلاً تدريجياً. يبقى السؤال الأهم حول قدرة النظام المالي الجديد على تحقيق الاستقرار والعدالة أم أن العالم سيدخل حقبة من الفوضى وصراعات النفوذ، حيث ستكتب الإجابة تحالفات الاقتصاد والسياسة في العقود القادمة.














