عوض الشاعري
رأيته يجلس على كرسي مهتريء بأعلى ربوة بمنتصف المدينة , بعباءته الرثة وشاربه غير المهذب كطاووس هرم , رغم التجاعيد الناتئة في وجهه والتغضنات البارزة في رقبته الطويلة التي تشي بطول سنوات عمره التي تجاوزت العد , رغم منظره الذي يدعو للرثاء والسخرية معاً كانت نظراته توحي بالعته والبلاهة أحيانا ثم سرعان ما تتحول إلى خارطة ملغزة يصعب استكشاف دروبها الموغلة في التشابك والتشعبات , اقتربت منه فلم يعرني أدنى اهتمام , حاولت أن أقترب أكثر صدمني بعدم اكتراثه , كانت ملامحه المستفزة هي سيدة الموقف ,
اقتربت أكثر حتى تقلصت المسافة بيننا إلى عدة خطوات , كان يراني … لا شك إنه يراني فهو ليس كفيفاً على أي حال … يتضح ذلك من خلال تجول عينيه ومسحه للمكان ببصره دون أن يأبه لوجودي أو يهتم بوقوفي وأنا القريب منه لدرجة أنني كنت أسمع زفير أنفاسه بتتابع , بل كنت أحس بصهدها يلفح يدي التي توازي جلسته الطاووسية التي يتقنها تماماً , كنت أستغرب أن المارة لا يتوقفون , الجميع يعبر الطريق على عجل ولا ينظر تجاهي , حتى الأشخاص الذين أعرفهم تمام المعرفة كانوا ينظرون في الاتجاه الآخر وكأني غريب ليس عليهم الالتزام تجاهي بإلقاء ولو مجرد تحية عابرة بصوت خفيض أو هزة سريعة بالرأس , أو حتى مجرد إيماءة برفع الحاجبين وخفضهما كما تعود أبناء مدينتنا في مثل هذه الظروف , كانت الحيرة تهيمن على مخيلتي وهو يمد يده ليمسك بيدي في إشارة : أن اجلس !! …..لا أدري لماذا وجدتني انساق وراء أوامره بتلقائية ودون أي اعتراض … كنت فقط أنظر لوجهه الغريب وهو يخرج من بين ثنايا معطفه البالي وريقات كأنها جمعت من على رصيف الشارع مكتوب عليها ( أخبار الأحزان ) وراح يتصفحها بنهم , ثم نطق قائلاً :
أنت خير جليس لي هذا المساء
يطيب لي أن تكون نديمي
فأنا سيد هذه المدينة .