سيرة ضابط محترف !

سيرة ضابط محترف !

  • شكري السنكي

الرَّاحـل عبْدالعزيز الشّلحي.. سيرته ومواقفه واعتقاله مِن قبل الانقلابيين

هلَّ علينا فِي الأسبوع الأوَّل مِن مارس الماضي، الذّكرى الحاديّة عشرة لوفاة العقيد الرَّكن عبدالعزيز الشّلحي، وبهذه المناسبة أعيد نشر مَا سبق أن نشرته عَن شخصه وسيرته، عقب سماعي خبر وفاته يوم الجمعة 9 ربيع الأوَّل مِن العَام 1430 هجري الموافق 6 مارس 2009م. وقد نشرت مقالتي سالفة الذكر يوم 7 مارس 2009م، عقب سماعي خبر وفاته، فِي موقـع: «ليبَيا المُسْتقبل»، واليوم رأيت مِن المناسب جدَّاً إعادة نشرها إحياءً لذكراه وتعميماً للفائدة، محاولاً جاهداً أن أقول مَا للرجل ومَا عليه، راجياً أن أتناول سيرته بموضوعيّة ووضوح، بعيداً عَن أيِّ محاباة أو مجافاة للحقيقة، وإنصافاً لتاريخ حقبة تعرضت صفحاتها للطمس والتشويه والتزوير.
أعيد نشر المقالة بشيء مِن الاستطراد وبنفس تحليلي جديد، مع بعض الإضافات والتعديلات والتصحيحات الضروريّة، علاوة على ضبط بعض الصياغات الّتي رأيت ضرورة لضبطها!. وأتمنى أن أكون قد وفقت فِي تقديم شيء مفيد، ومادّة جديرة بالاهتمام، وفِي إنصاف رجل تعرض للظلم والقهر والتشويه، ولم تتح له فرصة الدَّفاع عَن نفسهِ، وانتقل إِلى رحمة ربه دون أن يترك شيئاً مكتوباً ويدلي بشهادته مجيباً عن التساؤلات المثارة ومسجلاً مَا تعرض له مِن ظلم وافتراء، كاظماً غيظه راجياً أن يجزيه المولى عز وجل خير الجــزاء.
العقيد الرّكن عبدالعزيز إبراهيم الشّلحي، ضابط كفء، مُثقف شجاع، كان والده رفيقاً لإدْريْس السّنُوسي أميراً وملكاً، وكاتماً لأسراره وأخلص النَّاس إليه، وصار ناظراً للخاصة الملكيّة بعْد إعلان استقلال ليبَيا. اغتيل والده فِي 5 أكتوبر 1954م، وكانت تلك أوَّل جريمة اغتيال سياسي فِي ظل الدولة الوليدة الّتي أعلن عَن استقلالها فِي 24 ديسمبر 1951م.
أحب المَلِك إدْريْس، إبراهيم الشّلحي، وتأثر كثيراً بوفاته، واعتبر فقدانه خسارة عظيمة له وللوطن، وتكفل بعْد رحيله بأولاده الثلاثة «البوصيري وعُمر وعبدالعزيز» واعتبرهم بمثابة أبنائه. وأحب عبدالعزيز الشّلحي، المَلِك إدْريْس، وأخلص له، وكان يعتبره قدوته والمثل الأعلى الّذِي يحتذى به. وقد تعرض لظلم بيّن مِن قبل الانقلابيين وقبلهم على يد مجموعات كانت محسوبة على المُعارضة فِي العهد الملكي، ولأكاذيب وافتراءات شتى، ولتعذيب عنيف لم يتعرض له غيره مِن رجال العهد الملكي الّذِين تمّ اعتقالهم بعْد الانقلاب مباشرة، وأشيع وقتها أنه كان يُعد لتدبير انقلاب عسكري ضدَّ النَّظام الملكي بدعم مِن بريطانيا، وأن الملازم معمّر القذّافي وجماعته سرقوا منه ساعة الصفــر!!.
صَبَر عبدالعزيز الشّلحي واحتَسَب وأظهر قوَّة وصلابة نادرتين فِي السجن رغم فظاعة التعذيب الّذِي تعرض له، لدرجة أن جلاديه لم يسمعوا منه كلمة «آه»، وأكثر مَا كان يؤلمه تلك الفرية الّتي تقول إنه كان يريد الانقلاب على المَلِك إدْريْس السّنُوسي، وهُو الّذِي كان يعتبره بمثابة الأب تماماً، ويعتبره شخصاً استثنائياً وقائداً حكيماً مَا كان للإجماع أن يتحقق فِي شخص غيره، الإجماع الّذِي تحقق بفضله القرار الأممي باستقلال ليبَيا.
أحب عبدالعزيز الشّلحي، المَلِك إدْريْس، وجهر بمحبته له وعظيم ارتباطه به، أمام المحكمة الّتي أقامها الانقلابيّون وحاكمت رجالات العهد الملكي، المسماة «محكمة الشّعب»، مسجلاً موقفاً تاريخيّاً بطوليّاً قلما يحدث مثله، متحدياً الانقلابيين وسط محكمتهم الجائرة، وغير آبهٍ بسياط الجلادين وزنزانات الاعتقال. وقد سجل وقفة عز وشموخ أمام مَا كان يسمّي بـ«محكمة الشّعب»، نافياً جميع التهم الموجهة إليه، مدافعاً عَن المَلِك إدْريْس – طيّب الله ثراه – رافضاً أن يقبل بحقه أيّ كلمة لا تقر بصلاحه وتقواه، مسجلاً وفاءً نادراً رفع مكانته عالياً أمام المخلصين مِن أبناء وطنه.
أخيراً، أسأل الله التوفيق والعون والسّداد، وأن يكون مَا سأقدمه على درجة عاليّة مِن الأمانة والصدق والفائدة، وأسأله جل وعلا أن يتغمد عبدالعزيز الشّلحي بواسع رحمته ويجعل الفردوس الأعلى مستقره ومثواه.
وختاماً، بذلت كل مَا بوسعي، وأتمني أن أكون قد وُفِقت…
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}. (هود: 88)
حياته وسيرته (1)
ولد العقيد الركن عبدالعزيز الشّلحي فِي 20 يونيه 1935م، وصادف ذلك يوم مولد الرسول عليه أفضل الصلاة والسّلام. والده هُو إبراهيم أحمَد صَالح الشّلحي (1899م – 5 أكتوبر 1954م)، الّذِي كان فِي خدمة السّيِّد أحمَد الشّريف السّنُوسي وحظي بثقته، وعندما تولّـى السّيّد إدْريْس السّنُوسي شؤون الإمارة السّنُوسيّة العَام 1916م وغادر الشّريف البلاد إِلى المنفى في أوائل أغسطس 1918م على متن غواصة ألمانيّة مِن «مرسى العقيلة» إِلى «تركيا»، انتقل إبراهيم الشّلحي إِلى خدمة السّيِّد إدْريْس، فكان مِن رجاله الأوفياء المخلصين، بل مِن أخلصهم على الإطلاق. وكان مرافقاً للأمير إدْريْس السّنُوسي طيلة سنوات وجوده فِي ليبَيا قبل لجوئه إِلى المنفى فِي أواخر العَام 1922م، وكاتم سره ومستشاره الخاصّ طيلة سنوات بقائه فِي المنفى قبل عودته النهائيّة إِلى ليبَيا فِي العَام 1947م.
أشار المَلِك إدْريْس السّنُوسي إِلى شخص إبراهيم الشّلحي والصفات الكريمة الّتي امتاز بها فِي المذكرات الّتي نشرها عقب اغتيال الشلحي فِي صحيفة (الزمان) فِي عددها (58) الصّادر يوم الخميس الموافق 27 يناير 1955م، وقد نشر منها الجزء الأوَّل فقط، حيث توقف على استئناف جلساته مع صحيفة (الزمان)، والإدلاء بمزيدٍ مِن المعلومات عمّا عاصره مِن أحداث ومواقف، وقال المَلِك عنه فِي الجزء المنشور مِن مذكراته: «عندما اعتزمت التحول مِن السّلوم إِلى برقه طلبت مِن السّيِّد أحمَد الشّريف تزويدى بشخص يحوز ثقته لاْوليه أوراقي الخاصّة، فدلني على إبراهيم الشّلحي قائلا:”إنّه مِن عائلة طيّبة وشجاع وأمين على الأسرار”.. فاْخذته وفعلاً وجدته عند ظن السّيّد أحمَد الشّريف وكان على جانب مِن التدين والاستقامة والوطنيّة النزيهة».
عَيّن المَلِك إدْريْس بعْد إعلان استقلال ليبَيا فِي 24 ديسمبر 1951م، إبراهيم الشّلحي ناظراً لخاصته الملكيّة، الموقع الّذِي استمر الشّلحي فيه حتَّى تاريخ اغتياله على يد الشّريف محيي الدّين السّنُوسي فِي الخامس مِن أكتوبر 1954م أمام مقر رئاسة الوزراء بمدينة بّنْغازي.
لإبراهيم أحمَد الشّلحي ثلاثة أولاد وست بنات، وأولاده هم: البوصيري وعُمر وعبدالعزيز الّذِي كان أصغرهم. وقد اعتبر المَلِك إدْريْس أبناء إبراهيم الشّلحي الثلاثة «البوصيري، عُمر، عبدالعزيز» بمثابة أبنائه تماماً، خاصّة أنه لم يعش له أولاد، وكانوا يحظون بمكانة خاصّة عنده منذ اغتيال والدهم كاتم أسراره وناظر خاصته الملكيّة وأقرب النَّاس إليه، وذلك بعْد إطلاق النَّار عليه ظهر يوم الثلاثاء الموافق 5 أكتوبر 1954م بعْد خروجه مِن مقر رئاسة الوزراء فِي بّنْغازي بعْد لقاء جمعه برئيس الحكومة آنذاك مُصْطفى أحمَـد بِن حليم.
عقب اغتيال إبراهيم الشّلحي، استدعى المَلِك، البوصيري الشّلحي للقدوم إِلى ليبَيا مِن بريطانيا، بعدما كلّف مُصْطفى بِن حليم رئيس الوزراء الاتصال به وطلب حضوره الفوري إِلى بّنْغازي. درس البوصيري فِي بريطانيا وتزوج مِن سيدة إنجليزيّة كانت زميلته أثناء الدّراسة الجامعيّة، وعينّه المَلِك إدْريْس ناظر خاصته الملكيّة ولم يتجاوز عمره وقتئذ ثلاثة وعشرين عاماً، واستمر فِي موقعه مِن أكتوبر 1954م حتَّى تاريخ وفاته فِي العَام 1964م إثر حادث سيارة قرب مدينة إجدابيا فِي أوَّل أيّام عيد الأضحى المبارك بعْد مفارقته المَلِك في مدينة طبرق وعودته براً إِلى عائلته فِي مدينة طرابلس.
والابن الثّاني هُو عُمر الحاصل على الشهادتين الإعداديّة والثانويّة مِن مدارس فكتوريا الإنجليزيّة بمدينة الإسكندريّة، وعلى الشهادة الجامعيّة بالقانون مِن جامعات القاهرة. وقد عاد إِلى ليبَيا بعْد إنهاء دراسته، وعمل فِي دائرة السكرتارية بالقصر الملكي إِلى أن عينّه المَلِك فِي أواخر الستينيات مستشاراً خاصّاً له.
أمـّا الثّالث فهُو عبدالعزير الشّلحي الّذِي نخصص له هذه الوقفة، المولود بمنطقة «الحمام» بالسّاحل الشّمالي بالقرب مِن مدينة الإسكندريّة فِي 20 يونيه 1935م. الحاصل على الشهادتين الإعداديّة والثانويّة مِن مدارس فكتوريا الإنجليزيّة بمدينة الإسكندريّة، المتخرج بتقدير ممتاز في الكليّة الحربيّة المِصْريّة بالقاهرة فِي العَام 1954م، وكان العقيد سعد الدّين بوشويرب الّذِي أعلن انقلابيو سبتمبر 1969م اسمه كقائد لأركان الجيش الِلّيبيّ فِي ساعات الانقلاب الأولى رغم أنه كان موجوداً فِي تونس ومستقيلاً من الجيش منذ العَام 1967م، واحداً مِن بين زملائه فِي الكلية، وَمِن نفس دفعته. وقد ذكر عـبدالونيس محمود الحاسي أحد ضبّاط الجيش فِي العهد الملكي، فِي مقالةِ نشرها بموقع (ليبَيا وطننا) بتاريخ 2 أبريل 2009م، إن الانقلابيين أذاعوا اسم العقيد سعد الدِّين بوشويرب رئيساً لأركان الجيش فِي الساعات الأولى لانقلابهم، تضليلاً وخداعاً للرَّأي العام داخل ليبَيا وخارجها !!؟. ويذكر أن بوشويرب كان مِن دفعة عبدالعزيز الشّلحي بالكليّة الحربيّة المِصْرية هُو ومجموعة أخرى مِن الضبّاط الّذِين صاروا فيما بعْد قيادات عليا فِي الجيش الملكي الِلّيبيّ، وأنه استقال مِن الجيش قبل نحو سنتين مِن وقوع انقلاب سبتمبر 1969م. وجاء نص مَا قاله عـبدالونيس الحاسي على النحو التالي: « مِن بين الطلبة الّذِين كانوا مع عبدالعزيز الشّلحي، أو مِن دفعته بالكليّة الحربيّة المصريّة، وصاروا فيما بعْد قيادات عليا فِي الجيش، فِي مواقع مختلفة: العقيد الرَّكن عون ارحومة اشقيفة، مدير الحركات العسكرية، والعقيد الرَّكن حسونة عاشور، مدير التجهيزات العسكريّة (العينة)، والعقيد الرَّكن صالح الصبيحي، مدير الإدارة العسكريّة، والعقيد الرَّكن رمضان صلاح، ممثل الجيش الِلّيبيّ فِي القيادة العسكريّة العربيّة الموحدة فِي القاهرة، والعقيد الرَّكن طاهر أبوقعيقيص (آمر كتيبة)، والعقيد مفتاح الباح (آمر كتيبة)، والعقيد محمّد التومية، والعقيد أحمَد بن فايد، والعقيد سعْد الدَّين بوشويرب، الّذِي استقال مِن الجيش، قبل نحو سنتين مِن وقوع انقلاب سبتمبر 1969م، ولكن الانقلابيين، أذاعوا اسمه فِي الساعات الأولى للانقلاب، كرئيس لأركان الجيش الِلّيبيّ، تضليلاً وخداعاً للرَّأي العام داخل ليبَيا وخارجها!؟».
عاد عبدالعزيز الشّلحي مِن مِصْر إِلى ليبَيا بعْد تخرجه فِي العَام 1957م، وعمل فِي الجيش الِلّيبيّ كضابط صغير متنقلاً بين الولايّات الثلاث (طرابلس وبرقة وفزَّان)، وتَفَانَى فِي عمله وتميز عَن أقرانه فِي عدة علوم عسكريّة، فأرسل إِلى بغداد فتحصل على «الأركان» مِن الكليّة العراقيّة، وترقى فِي رتبه العسكريّة حتَّى صار عقيد ركن بالجيش الِلّيبيّ.
تزوج عبدالعزير الشّلحي مرتين، الأولى مِن سيدة إنجليزيّة والثّانيّة مِن سيدة مِن عائلات «إخوان السّنُوسيّين» مِن بيت أخواله «آل إبراهيم احميده الحسن الغماري» بمنطقة دريانة شرق ليبَيا. وأنجب مِن الأولى بنتاً واحدةً، والثانيّة ثلاث بنات.
ترأس لّجنة تنظيم الجيش، وشغل منصب مدير التدريب بالجيش، وكان مِن بين معاونيه العقيد ركن عزيز عُمر فائق شنّيب الّذِي تُوفي فِي المهجر بمِصْر فجر الخميس الموافق 2 يناير 2003م. وكلّفه المَلِك إدْريْس بنقل رسائله إِلى بعض رؤساء وملوك العرب، وقد بعثه أثناء حرب العَام 1967م إِلى الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والمَلِك حسين مَلِك الأردن، والرئيس السوري نور الدّين الأتاسي.
كان عبدالعزيز الشّلحي صلباً قوي الشخصيّة، ويتمتع بقدرات هائلة وكفاءة عسكريّة عاليّة، علاوة على الرعايّة الخاصّة الّتي منحه إيّاها المَلِك الرَّاحل إدْريْس السّنُوسي. وكان قوميّاً تربطه صلة قويّة بجمال عبدالناصر صاحب الكاريزما الطاغيّة فِي الوطن العربي فِي وقته وزمانه.. وصاحب نفوذ قوى فِي الجيش الِلّيبيّ عززه بتعيين اللواء السّنُوسي شمس الدَّين السّنُوسي «زوج أخته» قائداً للأركان، وتعيين زوج ابن أخته (زوج بنت شقيقته السيدة لطيفة، زوجة السّيِّد محمد عبدالسّلام الغماري) العقيد عون أرحومة شقيفة رئيساً أو مديراً لمنظومة الحركة بالجيش «العمليّات».
راجت شائعات في السنوات الثلاث الأخيرة مِن العهد الملكي بأن المَلِك الصَالح الرَّاحل إدْريْس السّنُوسي عازم على التنازل عَن العرش، وأن مقاليد الحكم ستؤول إِلى عبدالعزيز الشّلحي فِي انقلاب مِن داخل القصر ينقل السّلطة سلمياً إليه ويحوّل البلاد مِن نظام ملكي إِلى جمهوري دستوري بموافقة المَلِك الّذِي اختار اعتزال السّياسة والاستقرار فِي مدينة طبرق الِلّيبيّة المكان الّذِي كان ينوي قضاء باقي سنوات حياته فيه.
ومَنْ يقول مثل هذا الكلام لا يعرف المَلِك إدْريْس السّنُوسي حق المعرفة، ولا يعرف قَدْره ومنزلته ومعدنه، فهذا القول محض افتراء أو الافتراء بعينه، فكيف يقبل أن يقول كائن مَنْ كان، إن المَلِك اتفق سراً مع أحد المسؤولين أو واحد مِن ضبّاط جيشه أو المقربين منه على إزاحة نائبه وولي عهده الأمير الحسَن الرَّضا المَهْدِي السّنُوسي، وهُو مَنْ وضعه فِي ذلك الموقع بمرسوم ملكي، وباختياره وملء إرادته، ثم أصدر مرسوماً ملكياً آخر مِن قصر الخلد بتاريخ 22 ربيع الثاني 1376 هجري الموافق 25 نوفمبر 1956م يقضي بترتيب البيت المالك، نص على أن المَلِك إذا توفي دون ولد ذكر ولم تكن زوجته حاملاً أو كانت حاملاً ولم يتمخض الحمل عَن ولي للعهد يعود العرش إِلى صاحب السمو الملكي الأمير الحسَن الرَّضا ويعتبر أصلاً يكون توارث العرش مستمراً فِي فرعه وفقاً لأحكام الأمر الملكي الصّادر عَن المَلِك إدْريْس بتاريخ ٢٠ أكتوبر 1954م والقاضي بإعادة تنظيم البيت المالك.
وكيف له أن يقول مَنْ قال ذلك القول أو مَنْ صدقه!؟، أن المَلِك إدْريْس اتفق سراً مع عبدالعزيز الشّلحي على انقلاب مِن داخل القصر تنتقل السّلطة سلمياً بموجبه له!؟، وهذا الكلام يعني أن المَلِك خان شعبه، ونكث بوعده، ولم يحافظ على البيعات الّتي فِي عنقه ولا على الأمانة الّتي كان يتعين عليه الحفاظ عليها. وكيف يقال عنه ذلك !؟، وهُو مَنْ عُرف بأمانته وصدقه وزهده وتقواه، وبحرصه على سيادة القانون وحكم الدستور، والتزامه بالعهود والمواثيق وكل مَا يصدر عنه أو يصرح به، وهُو الّذِي نبذ التآمر ومَا عرفت يوماً الخديعة والمؤامرة طريقاً له، ولا عمره كذب أو خدع أمته وباع قضاياها بأيِّ ثمن مِن الأثمان.
ثم كيف يستوي هذا القول مع مَا جاء فِي بيان استقالته الّتي أرسلها مِن اليونان إِلى مجلس الأمّة، قبل أسابيع فقط مِن انقلاب سبتمبر، والّتي ترك السّلطة فيها لولي عهده، معلناً أنه عاقد العزم على اجتناب السّياسة. وقد جاء فِي بيان استقالة المَلِك إدْريْس الموقعة بتاريخ 21 جمادي الأوَّل 1389 هجري الموافق 4 أغسطس 1969م، فيما يخص هذه الجزئية ما يلي: «وقد مارست هذه القضيّة وكان عمري سبعة وعشرين سنة والآن فِي الثانيّة والثمانين ولله الحمد أتركها فِي حالة هي أحسن ممّا باشرت فِي بلائي بها، فأسلمها الآن لوليّ العهد السّيِّد الحسَن الرَّضا المَهْدِي السّنُوسي، البالغ مِن العمر ثلاثة وأربعين سنة هجريّة، الّذِي يعتبر مِن اليوم (المَلِك الحسَن الرَّضا المَهْدِي السّنُوسي الأوَّل) على أن يقوم بعبئها الثقيل أمام الله وأمام أهل هذه البلاد الكريمة على نهج الشّرعيّة الإسْلاميّة والدّستور الِلّيبيّ بِالعدلِ والإنصافِ فاعتمدوه مثلي ما دام على طاعة الله ورسوله والاستقامة، وبعد اعتماده مِن مجلس الأمّة يحلف اليمين الدّستوريّة أمام مجلس الأمة قبل أن يباشر سلطاته.
وإنّي إنَّ شاء الله عقدت العزم الأكيد على اجتناب السّياسة بتاتاً والله على مَا أقوله وكيل».
وفِي جانب ثانٍ، أكد الأمير محمّد الحسَن الرَّضا السّنُوسي «وريث العرش وابن ولي العهد الرَّاحل الأمير الحسَن الرَّضا» أن المَلِك إدْريْس ترك السّلطة لولي عهده، وأن حكايّة انقلاب الشّلحي كانت مجرَّد إشاعة، فِي حديث له نقلته مجلّة: «المنار» فِي عددها الرَّابع الصّادر بتاريخ جمادي الثّاني 1415 هجري الموافق نوفمبر 1994م، فقال فِي جزء منه : «بعْد الانقلاب، لجأ الانقلابيّون إِلى الإساءة للمَلِك إدْريْس السّنُوسي، وهُو معروف بورعه وزهده والتزامه بالشريعة، حيث عرضوا خزانته على الصحافيين بعدما وضعوا فيها زجاجات الخمــر!!.
وقد تمَّ تجميع رجال العهد الملكي فِي سجن بمدينة طرابلس عُرف باسم (الحصان الأسود).. آنذاك أدخل على هؤلاء الرجال فِي مكان تواجدهم بالسجن، العقيد عبدالعزيز إبراهيم الشّلحي وآثار المقاومة بادية عليه، فتقدم إِلى الأمير الحسن الرَّضا السّنُوسي ولي العهد، وأدَّى له التحيّة العسكريّة واستفسر منه عَن الأسرة وأحوالها، فردّ عليه الأمير أنها بخير والحافظ هُو الله.
والشّاهد، أطلقت إشاعة أثناء أيّام الانقلاب الأولى مِن أن السّيِّد عبدالعزيز الشّلحي كان يُعد لتدبير انقلاب عسكري ضدَّ النَّظام الملكي بدعم مِن بريطانيا… والحق أن هذه الروايّة لم تكن صحيحة، فقد كان الشّلحي وإخوانه وأسرته على علاقة طيّبة بالأسرة السّنُوسيّة. وهم سنوسيون قبل أن يكونوا مِن عائلة الشّلحي… وقد اتضح أن مَا كان يقال عَن انقلاب عسكري يدبره الشّلحي، كان مجرَّد فريّة وإشاعة».
وإضافة إِلى ذلك، كيف يكون ذلك صحيحاً، ووقائع المحكمة الّتي أقامها الانقلابيّون فِي مطلع السبعينات والمسمّاة (محكمة الشّعب)، تشير إِلى عدم صحة ذلك تماماً، فرئيس المحكمة الرَّائد بشير هوادي، عضو مجلس الانقلاب، والمدعي العام النقيب عُمر المحيشي، عضو مجلس الانقلاب، لم يسألاه مطلقاً عَن شيءٍ يخص تنظيم يُقال إنه كان يترأسه، ولا عَن اتفاق سري يُقال إنه عقده مع المَلِك، تنتقل السّلطة بموجبه سلمياً له!؟؟. علاوة على موقفه الشهم الشجاع أمام المحكمة، الّذِي أكد فيه بما لا يدع مجالاً للشكّ، مدى حبّه ووفائه للمَلِك، حيث دافع عَن المَلِك أمام المحكمة دفاعاً شديداً، ورفض رفضاً قاطعاً تهمة الفساد المراد إلصاقها به، وبالقصر الملكي عموماً، مؤكداً على نزاهة واستقامة المَلِك إدْريْس، ومدى صلاحه وعفته وتقواه، وأنه يعتبره قدوة له ومثالاً يُحتذى به.
واسْتِطْرَاداً لما تقدم أضيف مَا قامت به بعض الأجهزة الخارِجِيّة لخدمة هذا الغرض، حيث أرسل جمال عبدالناصر، إِلى ليبَيا، محمّد حسنين هيكل الصحفي والمستشار المقرب له، وذلك بعْد ساعات مِن وقوع الانقلاب. أقلع هيكل مِن «مطار ألماظة» بمِصْر الجديدة على متن طائرة حربيّة مِصْريّة، مساء يوم الاثنين الموافق 1 سبتمبر 1969م، قاصداً مدينة بّنْغازي الِلّيبيّة، ووصل إِلى «مطار بنينة الدّوليّ» بعْد ساعتين مِن مغادرته القاهرة، وعند حوالي الساعة الحاديّة عشرة والنصف ليلاً دخل إِلى مبني القنصليّة المصريّة ببّنْغازي، وبعْد نصف ساعة مِن وصوله اجتمع بمعمّر القذاّفي فِي قاعة الاجتماعات داخل مبني القنصليّة واستمر اجتماعهما نحو أربع ساعات.
ومِن بين مَا تداوله النَّاس وقتها، أن محَمّد حسنين هيكل وقتما نزل فِي مطار بنينة واستقبله النقيب مُصْطفى الخروبي وبعض الضبّاط الآخرين، سأل هيكل مستقبليه، قائلاً: فين عبدالعزيز بي!؟، قاصداً: «أين عبدالعزيز الشّلحي!؟».
هذه القصة تناقلها النَّاس فِي كلِّ مكان بعْد وقوع الانقلاب مباشرة وتداولوها بِشكلِ كبيرِ، وليس هُناك مَا يثبت صحتها أو دليل قطعيّ على أنها وقعت بالفعل، بل رُبّما كانت مجرَّد إشاعة صنعتها أجهزة مخابراتية قصدت مِن ورائها تقديم خدمة للانقلابيين والمساهمة فِي إنجاح انقلابهم وتثبيت أركانه!. وقد أرادوا مِن خلالها التَّمْوِيهِ، ثمَّ جعل النَّاس يقبلون أو يتقبلون الانقلاب ويتفاعلون معه، مِن خلال تسويق فكرة التغيير أو ترسيخها فِي الأذهان على أساس أن التغيير كان قادماً لا محالة، وأن المَلِك إدْريْس لم يعد راغباً فِي الاستمرار فِي الحكم، وأن عبدالعزيز الشلحي كان ناوياً على إزاحة المَلِك والاستيلاء على الحكم، ولكن الضبّاط الوحديين الأحرار سبقوه وأفشلوا مخططه، خصوصاً وأن أجهزة المخابرات تمكنت – وعلى مدار سنوات قبل ليلة الأوَّل مِن سبتمبر مِن العَام 1969م– أن ترسم فِي أذهان النَّاس صورة قاتمة عَن عبدالعزيز الشلحي وآل إبراهيم الشلحي عموماً.
ومَا يُضافُ إِلى السّياقِ أيْضاً، أن التنظيم الّذِي يُشاع أن العقيد ركن عبْدالعزيز الشّلحي كان يترأسه، ويقال إنه كان يضم مجموعة مِن العقداء والرَّواد مِن بينهم: العقيد ركن عون أرحومة اشقيفة (1932م – 17 يناير 1996م) مدير الحركات العسكريّة، والعقيد ركن عزيز عُمر فائق شنّيب (1937م – 2 يناير 2003م) معاون نائب مدير التدريب برئاسة الأركان.. وآخرون. هذا التنظيم، وهذه المجموعة، كانت حديث الِلّيبيّين فِي سنوات العهد الملكي الأخيرة، وقد أشارت بعض التقارير الصحفيّة وتقارير بعض السفارات فِي ليبَيا إِلى هذا التنظيم، أهمها التقرير السّري للسفارة الأمريكيّة فِي طرابلس إِلى وزارة الخارِجِيّة الأمريكيّة المؤرخ بيوم 2 يونيه 1969م (2) والذِي قام بترجمته محمود عوض الفيتوري ونشره فِي مطلع العَام 2015م فِي موقع: «ليبَيا المُسْتقبل».
وحقيقة، ينسى مَنْ يعتدون بمثل تلك التقارير، أن كتّابها مجرَّد موظفين ينقلون إِلى الجهات التابعين لها كل شيء يدور فِي محيطهم وفلكهم بما فيها أحاديث النَّاس الّتي قد لا تعبر بالضرورة عَن الواقع والحقيقة، فالواقع يقر أن عبْدالعزيز الشّلحي كان ولاؤه للمَلِك مطلقاً، وأنه كان يجله ويقدره تقديراً عظيماً، ومَا يؤكد ذلك الكيفية الّتي كان يتعامل به مع المَلِك، والطريقة الّتي كان يتكلم بها معه، بالإضافة إِلى ظهوره بجانبه فِي كلِّ لقاءاته أثناء جولة المَلِك الأخيرة سنة 1968م الّتي زار خلالها كلِّ مناطق البلاد.
هذا، وقد شاع بعد وقوع الانقلاب أن الملازم معمّر القذّافي سرق ساعة الصفر مِن الضبّاط الكبّار!، وصارت هذه القصة متداولة بين النَّاس، وما زال هُناك مَنْ يعتقد بصحتها حتَّى الآن!، بالرَّغم مِن غياب الوثائق والشواهد والقرائن والدلائل الّتي تؤكدها !!.
وفِي هذا السّياق، جاء فِي مقالة لمفتاح فرج تحت عنوان: (مِن خفايا انقلاب سبتمبر 1969م.. المؤامرة والخديعة) المنشورة فِي موقع (أخبار ليبَيا) العَام 2004م، ما يلي: « سرقوا ساعة الصفر عندما كانت مهيأة لتسلم العقيد الرَّكن عبدالعزيز الشّلحي السّلطة يوم الجمعة الموافق 5 سبتمبر 1969م، وبالتالي نجحت أمريكا فِي إفشال مخطط الشّلحي وطرد الإنجليز واستلام ليبَيا».
وَفِي جانب آخر، تردد نفس الشيء أو شيء مشابه لذلك، فِي نص خبر وفاة الشّلحي الّذِي نُشر على موقع: (ليبَيا المُسْتقبل) يوم الجمعة الموافق 6 مارس 2009م، وجاء كمَا يلي: «غير أن الملازم معمّر القذّافي وزمرته مِن صغار الضبّاط – وَفِي عمليّة تآمريّة ما زال الغموض يلفّها- غدروا بعبدالعزيز الشّلحي واستطاعوا أن يتحرّكوا باسمه فِي ليلة الأوّل مِن سبتمبر 1969م، فسرقوا الانقلاب، وزجوا به مع قادة الجيش فِي السجون !!».
والحقيقة أن عبدالعزيز الشّلحي كان يحيط نفسه بمجموعة مِن أصدقائه الضبّاط، وكان هؤلاء جميعاً متقاربين فِي آرائهم ومنسجمين ومتفهمين إِلى حدٍ بعيد، ولكن مَا راج عَن الشّلحي ومجموعته مِن حيث كونها كانت تخطط للاستيلاء على السّلطة، هُو مجرَّد شائعات وقصص خياليّة، إن لم نقل افتراءات، وقد أكد ذلك الضّابط عبْدالونيس محمود الحاسي الّذِي قضى فِي سجون القذافي ثمانيّة عشر عاماً، وكان يعرف مجموعة الضبّاط المحسوبين على الشّلحي، أن مَا كان يقال حول وجود تنظيم للعقيد عبْدالعزيز الشّلحي هُو محض شائعات أو افتراءات، فالمَلِك إدْريْس كان فِي مقام الوالد بالنسبة لعبْدالعزيز الشّلحي، ولذا مَا كان له أن يفكر بتاتاً فِي أيّ عمل ضدَّه أو يقوم بشيء يغضبه أو دون إذنه وموافقته.
واستطراداً فِي التأكيدات، سأل العقيد عبدالله سويسي، العقيد ركن عبْدالعزيز الشّلحي، عَن حقيقة تجمع الرَّواد والعقداء، فنهره الشّلحي قائلاً: «المَلِك إدْريْس فِي مقام والدي ولا يمكن أن أخونه أو أنقلب عليه». وقد نقل هَذا الحديث إبراهيم السّنوُسي امنينة، فِي الفصل المعنون: بـ«خيوط المؤامرة» مِن سلسلته المنشورة تحت عنوان: «ذاكرة الأيّام».
هذا، وقد روى ليّ فائز عبْدالعزيز جبريل الّذِي كان معارضاً نظام القذّافي ومقيماً بالقاهرة، أنّه سأل عزيز عُمر فائق شنّيب اللاجئ السّياسي والمقيم بمِصْر فِي ثمانينات القرن المنصرم، عَن تجمع الضبّاط ومَا كان يقال حول مخطط لدى عبْدالعزيز الشّلحي للاستيلاء على السّلطة، فردّ عليه قائلاً: «شوف يا فائز، كمَا تعلم، أن والدي أو أسرتي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالسّنوسيّة وبالمَلِك إدْريْس السّنُوسي. وكان والدي – رحمه الله – محباً للمَلِك إدْريْس – طيّب الله ثراه – وأنه قبل وفاته فِي شهر أغسطس 1953م كان قد أوصى المَلِك علينا أنا وأخوتي، وعليّ أنا تحديداً، والمَلِك مِن جانبه كان يعاملني بعْد وفاة والدي معاملة خاصّة كمعاملة الأب لابنه بحكم وصية والدي وعلاقة الصداقة الأخويّة الّتي ربطتهما سوياً. المَلِك إدْريْس كان فِي مقام والدي تماماً ولا يمكن ليّ أن أفكر فِي الانقلاب عليه أو أن يحدث شيء مِن ذلك فِي حياته».
بقى لديّ أن أكرر تأكيدي المطلق على استحالة أن يكون المَلِك إدْريْس قد عقد العزم قبل إرسال استقالته الموقعة بتاريخ 4 أغسطس 1969م إِلى مجلس الأمّة، على تغيير نظام الحكم مِن نظام ملكي إِلى جمهوري دستوري، أو أنه اتفق سراً مع عبدالعزيز الشلحي لنقل السّلطة سلمياً إليه. حيث أكد المَلِك فِي استقالته المذكورة بما لا يدع مجالاً للشك، أنه عازم عزماً أكيداً على ترك منصبه لولي عهده، متعهداً بترك السّياسة أو اجتنابها كمَا قال، داعياً إِلى تنصيب الأمير الحسَن الرَّضا المَهْدِي السّنُوسي ملكاً للبلاد، بعْد اعتماده رسميّاً مِن قبل مجلس الأمّة، ثمّ حلفه اليمين الدّستوريّة أمام المجلس.
أمّا مسألة تنظيم العقداء والرَّواد بزعامة العقيد ركن عبْدالعزيز الشّلحي، قد يحتاج إِلى مزيد مِن البحث والدراسة والتقصي لاكتشاف مَا لم يتمَّ اكتشافه بعْد، مع التأكيد على استحالة أن يكون عبْدالعزيز الشّلحي قد فكر يوماً فِي إزاحة المَلِك إدْريْس عَن السّلطة واستيلائه عليها.
وعوداً على ذي بدء، كان عبدالعزيز الشّلحي يعتقد أن المؤسسة العسكريّة وقتئذ، هي الجهة الوحيدة القادرة على إحداث التغيير، وأنه ومجموعة الضبّاط الكبّار رفاقه قادرون على التصدّي لأيٍّ محاولة انقلابيّة أو تستهدف المَلِك إدْريْس السّنُوسي فِي شخصه الكريم أو نظام حكمه الرشيد. وأستبعد أن تنجح مجموعة الضبّاط الصغار فِي الاستيلاء على الحكم، وعلى الرَّغم مِن علمه المسبق بتحركات الملازم معمّر القذّافي ومتابعته لمجموعته المُكوّنة مِن ضباط صغار الرتب، والمسمّاة بـ«تنظيم الضبّاط الوحدويين الأحرار». وظنّ أن هؤلاء الضبّاط الصغار لن ينجحوا فِي تحقيق هدفهم أو أنهم سيعدلون عَن رأيهم أو أن شملهم سيتفرّق وكأن شيئاً لم يكُن.
نجح الملازم معمّر القذّافي فِي انقلابه وزجّ بالعقيد ركن عبدالعزيز الشّلحي وقادة الجيش الكبّار فِي السجون!. كان الشّلحي عند وقوع انقلاب 1 سبتمبر 1969م موجوداً بطرابلس، فألقى الانقلابيّون القبض عليه فور استيلائهم على السّلطة وزجَّ به فِي السجن مع ثلة مِن شرفاء رجالات ليبَيا وخيارهم، وشمله قرار «العزل السّياسي» الّذِي أصدره الانقلابيون 8 يوليو 1971م.
سجل الشّلحي موقفاً شجاعاً فيما سُمّى بـ«محكمة الشّعب» الّتي عقدها الانقلابيّون لمحاكمة رجالات العهد الملكي بعْد استيلائهم على السّلطة في سبتمبر 1969م، إذ وقف شامخاً أمام محاكميه نافياً كلِّ التهم الموجهة إليه، مدافعاً عَن المَلِك إدْريْس وكله فخر واعتزاز بارتباطه به ووفائه له.
ظلّ رهن الاعتقال مِن ساعة إلقاء القبض عليه فِي سبتمبر 1969م إِلى شهر أغسطس 1976م، دون أيِّ ذنب جناه أو ذنب اقترفه ، ثمّ فُرِضت عليه الإقامة الجبريّة فِي بيته لمدة سنتين بعدها قُيِدت حركته داخل ليبَيا بحيث لا يتحرَّك إلاّ بإذن مسبق.
وبالإضاقة إِلى ذلك، أصدرت المحكمة المُسمّاة بـ«محكمة الشّعب» وترأسها الرَّائد بشير هوادي والنقيب عُمر المحيشي مدعياً عاماً، على شقيقه عُمر إبراهيـم الشّلحي (1939م – 25 فبراير 2019م) فِي نوفمبر 1971م، حكماً غيابياً يقضي بالسجن المؤبد ومصادرة أملاكه، وعلى المَلِك إدْريْس حكماً غيابياً يقضي بإعدامه رمياً بالرصاص ومصادرة أملاكه. ويُذكر أن المحكمـة نفسها كانت قد أصدرت حكماً غيابياً آخر على الملكة فاطمة الشفاء يقضي بسجنها لمدة خمس سنوات ومصادرة كافة أملاكها وممتلكاتها.
سنـوات السـجن
تعرض العقيد عبدالعزيز الشّلحي داخل السجن إِلى صنوف شتى مِن التعذيب والحرمان: الضرب المبرح على القدمين حتَّى تدمى أو تصل إِلى مرحلة أسوأ مِن ذلك بكثير.. الصعق الكهربائي.. الحرمان مِن النوم.. التعليق مِن القدمين ليكون الرأس لأسفل والقدمين لأعلى معلقتين فِي حبل.. وغير ذلك كثير. صَبَر الشّلحي واحتَسَب وأظهر قوَّة وصلابة نادرتين، فلم يتأوه لحظة أو يصرخ فِي وقتٍ مِن الأوقات، وظل صامداً صابراً رغم صنوف التعذيب القاسيّة الّتي تعرض لها، رافضاً أن يستجدي جلاّديه أو يسمعوا منه كلمة «آه». وقد حدثنا سعيد ذوقة عَن قوَّة صبره واحتماله وعدم انكساره، نقلاً عَن أحد رفاق الشّلحي فِي المعتقل، فِي مقالة نشرها فِي صفحته تحت عنوان: (عبدالعزيز الشلحى.. صبر الجمال.. وثبات الجبال)، وجاء فِي مقتطفات منها ما يلـي: « روى اللواء عبدالرزاق إبراهيم بالخير، المتهم بِالاشتراكِ فِي أوَّل محاولة لإطاحة القذّافي، بقيادة المقدم آدم الحواز والمقدم موسى أحمَـد، فِي ديسمبر1969م، فِي لقاء مطول له مع إحدى القنوات الفضائيّة الِلّيبيّة، استمر أربع حلقات، أن الانقلابيين بحثوا للعقيد عبدالعزيز الشّلحي عَن أيِّ تهمة، ولما عجزوا، اتجهوا إِلى التسلي بإذلاله وتعذيبه، وكان يتولى هذه المهمّة، ثلاثة مِن أشرس ضبّاط الانقلاب (3) أو مَنْ كانوا يسمّون وقتها (الضبّاط الوحدويون الأحرار). وأنزلوه فِي زنزانة انفرادية، تقابل مباشرة إدارة السجن، ليعطوه وجبات يوميّة مِن التعذيب الفظيع، الّتي قال الراوي إنه فقد فِي إحداها الوعي لأيّام، كمَا تشقق باطن رجليه، وأخذت تنزف، ومع الأيّام واستمرار التعذيب، وانعدام العلاج المقصود طبعاً، وصلت باطن القدمين إِلى درجة مِن درجات التعفن. وقد خرج مِن السجن وهُو يعاني مِن إعاقة ظاهرة فِي رجليه الاثنتين يعرج بسببها».
واستطرد ذوقة نقلاً عَن أحد رفاق الشّلحي فِي السجن، فقال: «إن جلاّديه كانوا يمارسون ضدَّه أقصى صنوف التعذيب لأجل سماع صوت أنينه فقط أو يروه يتألم ويتعذب، لكنه لم يحقق لهم هذا الغرض، وظل صامداً صابراً لا يتأوه ولا يتألم، وحينما يتعبون مِن تعذيبه يأمرون حراسه بأخذه إِلى زنزانته.. وإذا أرادوا إحضاره مرَّة أخرى للتسلية بتعذيبه، أمروا السَّجَّانِين أو الحراس الإتيان به. وقال إنه سأل العقيد الشلحي ـ فيما بعْد وهما بالسجن ـ عَن سر تحمله لكلِّ هذا العذاب، فقال له ولرفاقه، إنّه عاهد الله، على ألا يستذل لهم وألا يسمعوا منه كلمة (آه). وختم الشاهد حديثه: أنه لم يتعرض أيّ شخص لأبشع صنوف التعذيب، فِي تلك الفترة ـ وبغير تهمة ـ مثل مَا تعرض له الشلحي، ولم ير فِي حياته رجلاً يصبر على أهوال التعذيب كالجبل الشامخ مثله.. رحم الله عبدالعزيز الشّلحي.. الصامد الصابر المحتسب، ولعن الله جلاّديه المجرمين..».
مكث عبْدالعزيز الشّلحي بالاعتقال الظالم حوالي سبع سنوات، وأصر بعْد الإفراج عنه على البقاء فِي ليبَيا وقضاء مَا تبقى مِن سنوات عمره فوق ترابها الغالي الطاهر، وفضّلَ الإقامة بطرابلس أو كمَا قال الكاتب الأديب أمين مازن: « فضّلَ عبْدالعزيز الشّلحي الإقامة بِالدّاخلِ حتَّى بعْد أن سُمِحَ له بالسفر المرَّة تلو المرَّة، وإِلى أن وافته المنيّة وتقبّلَ أهله العزاء مِن جميع عارفيه وظل طوال عمره مصرّاً على احترام نفسه فلن يعلن عَن أيِّ طلب شخصي.
استقر مع أسرته بطرابلس وافتتح مكتباً خاصاً للترجمة. أطلق على مكتبه الّذِي افتتحه بعمارة الوحدة بطرابلس، اسم (باتنة)، وهي المدينة الّتي ولد بها أجداده الأوائل، فحرص على التذكير بها قطعاً للطريق على أيِّ مزايد فج بالأصل الِلّيبيّ، واعتبار غير الِلّيبيّ نقيصة..!! على الرَّغم مِن أن الهوية موقف، فما بالك أن تكون قد قاربت القرنين مِن الزمن.
ومِن المعلوم أن آل الشلحي ينحدرون مِن مجموعة الأسماء الّتي نزحت مع السّنُوسي الكبير مِن شرق الجزائر عقب الاحتلال الفرنسي كأسرة الغماري والسُنّي ممَنْ اتخذوا مِن السّنُوسي القدوة ومِن طريقته الزاد الروحي، حتَّى أن بعضهم رافقه فِي رحلة الحجاز وعاد مرَّة أخرى، ومنهم مَنْ خاض معه تجربة الهجرة إِلى مِصْر».
استقر عبْدالعزيز الشّلحي مع أسرته بطرابلس فِي منزله الكائن بشارع عبدالرَّحمن الكوكبي بجوار مركز شرطة الأوسط فِي الظهرة، وافتتح مكتباً للترجمة بعمارة الوحدة بالمدينة، وبعدما أُذَنَ له بالسفر عملاً بالإجراءات الّتي تمَّ اتخاذها عقب الإفراج عَن بعض السجناء السياسيين بموجب مَا عُرف بقرارات «أصبح الصُبح» فِي الثاني مِن شهر مارس مِن العَام 1988م.
ومنذ السماح له بالسفر، صار يتردد على القاهرة الّتي اشترى فيها بيتاً بمِصْر الجديدة، وكان يزور الملكة فاطمة الشفاء أحمَد الشّريف السّنُوسي (1911م – 3 أكتوبر 2009م)، ملكة ليبَيا وأرملة المَلِك الرَّاحل إدْريْس السّنُوسي، فِي مقر سكنها فِي القاهرة بمنطقة الدّقي فِي ميدان فيني أولاَ ثمَّ الربوة بمدينة الشّيخ زايد «6 أكتوبر».
كان عبْدالعزيز الشّلحي يحب الملكة حباً جمّاً، ويقدرها تقديراً عظيماً، ويراها الملكة الصالحة المتواضعة.. والمرأة المثاليّة.. والإنْسَانة المؤمنة التقية.. والأم الحنونة الرؤوفة.. والقدوة الحسنة الّتي يحتذى بها.
وَمِن جانبها، كانت الملكة فاطمة الشفاء – طيّب الله ثراها – تقدرّه وتعزه معزة خاصّة، وتعامله معاملة الابن تماماً، وهي الّتي قدر الله لها ألا يعيش لها أبناء.
لم ينقطع عبْدالعزيز الشّلحي قـط عَن زيارة الملكة فاطمة منذ أن سُمح له بالسفر فِي العَام 1988م وإِلى أن وافته المنيّة فِي السّادِس مِن مارس العَام 2009م.
وفاتـــه
أصيب عبدالعزير الشّلحي فِي العَام 2008م بالتهاب حاد فِي الرئةِ، فسافر للعلاج فِي سويسرا ومِصْر، وقبل وفاته ظهر يوم الجمعة السّادِس مِن مارس 2009م، كان ينوي الذهاب إِلى بريطانيا أو الولايّات المتَّحدة الأمريكيّة لاستشارة الأطباء هنُاك لأنّ صحته لم تتحسن بل ظلّت تنحدر إِلى الأسوأ مع مرور الأيّام والشهور.
شارك فِي تشييع جثمان الفقيد أعداد غفيرة من الِلّيبيّين، ودفن بعْد صلاة العصر مِن يوم الجمعة الموافق 9 ربيع الأوَّل مِن العَام 1430 هجري الموافق 6 مارس 2009م فِي مقبرة هنشير بطرابلس.
تقبله الله بواسع رحمته وغفر له وتجاوز عنه وجعله فِي عليين.

بقلم: شكري محمّد السنكي
الأربعاء الموافق 15 أبريل 2020م

ملاحظّات وإشارات
(1) مجمل تفاصيل سيرة الرَّاحل عبدالعزيز الشّلحي أخذتها مِن ابن شقيقته السّيّد محمّد المَهْدِي السّنُوسي عبر لقاءات واتصالات ومراسلات بالإيميل، وقد أهداني أيْضاً بعض الصور الّتي تُنشر لأوَّل مرَّة.
(2) تقرير السفارة الأمريكيّة السّري: أرسلت السفارة الأمريكيّة فِي طرابلس تقريراً سرياً تحت عنوان: «تقرير عَن نفوذ عائلة الشّلحي»، إِلى وزارة الخارِجِيّة الأمريكيّة بتاريخ 2 يونيه 1969م. قام محمود عوض الفيتوري بترجمة التقرير إِلى العربيّة ونشره فِي موقع: «ليبَيا المُسْتقبل» بتاريخ 28 يناير2015م، والإشارة إِلى التقرير المترجم فِي هذا السرد لا تعدو أن تكون إلاّ تدليلاً على أن الكلام عَن مجموعة الشّلحي كان موجوداً ومتداولاً حتَّى فِي التقارير السّريّة للسفارات العاملة بليبَيا آنذاك، ولا يعني بتاتاً تبني مَا جاء فِي التقرير أو التأكيد على أن العقيد ركن عبْدالعزيز الشّلحي كان يتزعم تنظيماً داخل الجيش، خصوصاً أن الشّلحي أكد لأكثر مِن شخص سأله عَن موضوع التنظيم بشيء مِن النفي قائلاً:.. «.. كيف أنقلب على والدي!؟، فالمَلِك إدْريْس كان فِي مقام والدى بالفعل..». ويُضاف إِلى ذلك، أن التقرير المذكور كتبه موظف نقل إِلى الجهة التابع لها حديث النَّاس لا أرقام دقيقة ومعلومات موثقة، لأنّ الواقع يقر أن عبْدالعزيز الشّلحي كان قريباً جدَّاً مِن المَلِك إدْريْس، وولاؤه له كان مطلقا، ومَا يؤكد على ذلك ظهوره بجانب المَلِك فِي كلِّ لقاءاته أثناء جولته الأخيرة سنة 1968م التي زار خلالها كلِّ مناطق البلاد.
(3) الضباط الثلاثة: ذكر سعيد ذوقة فِي مقالته المُشار إليها أسماء الضبّاط أو الجلادين الثلاثة، والّذِين – حسبما قال – كانوا مِن أهم قادة انقلاب سبتمبر، وأضاف أن الأوَّل قُتل بصورة بشعة أثناء حرب ثورة فبراير الّتي أطاحت بحكم الانقلابيين، والثاني مات بِالسرطانِ منذ سنوات بعيدة، والثالث يقال إنّه فِي المعتقل. اكتفيت بالإشارة إِلى هؤلاء دون ذكر أسمائهم، ولمعرفة الأسماء يرجى الرجوع إِلى مقالة ذوقة سالفة الذكر.

المراجع
1) المؤلف، الحلقة الثانيّة مِن مقالة على حلقتين تحت عنوان: «شخصيّة مِن بلادي.. قراءة فِي تاريخ المُناضل الدّبلوماسي عزيز شنّيب»، موقع: «ليبَيا المُسْتقبل» بتاريخ 19 مايو 2015م.
2) إبراهيم السّنُوسي امنينة، الحلقة الثامنة مِن سلسلة: «ذاكرة الأيّام»، مدونة «أبجدية الوطن» بتاريخ 4 أكتوبر 2012م.
3) الحاسي، عبْدالونيس محمود، السلسلة المعنونة: «العقيد ركن عبدالعزيز الشّلحي.. لماذا فشل فِي إحباط انقلاب سبتمبر»، موقع: «ليبَيا وطننا» بتاريخ أبريل 2009م.
4) ذوقة، سعيد، مقالة تحت عنوان: «عبْدالعزيزالشّلحي.. صبرالجمال.. وثبات الجبال»، الصفحة الشخصيّة بالفيسبوك، بتاريخ 28 مارس 2020م.
5) مازن، أمين، مقالة تحت عنوان: «عُمر الشّلحي فِي ذمة الله»، الصفحة الشخصيّة بالفيسبوك، بتاريخ 28 فبراير 2019م.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :