شجون ” دَمِيَّة ” في زمن البرتقال …

شجون ” دَمِيَّة ” في زمن البرتقال …

كتب :: عز الدين عبد الكريم

أما وقد أدخل الصقيع معظمنا إلى مغاغيرنا …هيا بنا نحكي ..

إلى جانب قناعاتنا وشهاداتنا المتكررة بأن البرتقال الليبي من أفضل الأنواع وألذها مذاقاً ، فإن شهادات آخرين من أصقاع مختلفة ، أبدوا ذات الشهادات وقد ارتسمت على وجوهم الدهشة وهم يذوقون البرتقال الليبي كذلك ، ولم أكلف نفسي عناء البحث عن الأسباب والمسببات ، ولو أن ارتياحاً مشوب بغصة تملأني عند ذكر نوع معين لارتباطه باسم مدينة محتلة في المشرق العربي وهي ” يافا ” الذي جاء منها برتقال تلبس الاسم الأجنبي في ليبيا ليسمى ” جافا” .

من أنواع البرتقال المحبب عندنا نحن الليبيين إلى جانب نوع رئيس آخر كالـ ” البوـــ صُرّة ” هناك نوع آخر نسميه بالــ ” الدَّمِي ” نسبة إلى لونه الشبيه بلون الدم ، وقد ارتبط هذا النوع عندي ذات يوم بالدم الحقيقي ، لما خلفته حادثة باستذكار الدماء التي أحسستها تُسكب هدراً خارج الشرايين إلى قاع لا قرار له ، وكأن الجوف أصبح بحجم الفضاء اللامتناهي وفق مسابير ” هابل ” و المركبات الفضائية …

على الطريق الساحلي بين مدينتي طرابلس و صبراته ، تتولد ” عادةٌ ” وتكون حاضرة عندي والمتمثلة في شراء البرتقال عندما يحين زمنه ، وفي مكان قلما ينتبه الجغرافيون لكتابة اسمه على الخرائط ، توقفت أمام إحدى سيارات الشحن الصغيرة ” بيجو” المحملة بالمنتوج لاسأل أولاً عن الأسعار كبوادر احترازية تعطي الإحساس للبائع بمتابعتي لبورصة البرتقال ، في حين أنه لا علاقة لي بأي نوع من الاحتراز الاقتصادي في مصروفاتي ، لكنني أوحي تمويهاً بذلك … إلا أن التركيز هذه المرة ابتعد عن البرتقال ليتوجه لبائعه ، الذي تَعرف علىَّ بس

بب اقتحامي عنوة في ذلك الزمن لبيوت الناس عبر الشاشة الصغيرة بين الحين والآخر ، مما جعل البائع يفتتح معي حواراً ثقافياً فنياً ، أدهشتني فيه التقاطاته الاستثنائية التي تُنبئ بأن هناك أسراراً تلف الرجل أو مدفونة فيه ، رغم تمويه هيئته بملابس محلية تقترب من الرثة مع معطف لو قُدر له الكلام ، للجأ الى منظمة حقوقية من ترهله هو الآخر ، وهنا كان لابد أن تستيقظ عندي حاسة الصحفي لأقلب الحوار من مجيب إلى سائل ومستطلع باستغراب غير خافٍ .

فاجئني الرجل بأنه فنان تشكيلي اختار منذ سنين الابتعاد ، وعرفت بأنه متخرج ومتمرس في أكبر الجامعات الفنية الإيطالية بروما ، و أخذ يتحدث عن المدارس الفنية منذ ما قبل التاريخ إلى عصر النهضة ، واستحوذ كل من السيد ” ليوناردو دي فنشي” والسيد ” مايكل أنجلو” على جانب من السرد …و طرحت أسئلة كثيرة أنستني إجابات الرجل عليها سبب توقفي عنده وهو البرتقال الدَّمِي ، لأغادره بعد زمن كان مليئاً بالتوهان و ليصبح اللون ” الدَّمِي ” للبرتقال ، مرتبط بغليان الدماء وتدفقها إلى قبور ليست محفورة وليس لها حدود .

رجل آخر في ذات التخصص ، يميل إلى البساطة في هيئته ، وتنعكس سماحة وجهه ، لتسبغ عليه مسحة مشايخ الصوفية الورعين ، الذي دُعي إلى مؤتمر دولي حول الآفاق الجديدة في التشكيل العالمي ، ولما كان بعيداً عن السلطة المحلية، قريباً إلى الواعين بين مسؤولي بعض بلدان أوروبا ، فإن المعاناة لاحقته ليتمكن من اتمام إجراءات الالتحاق بالمؤتمر ، ولما كان المؤتمر قد بدأ بالفعل ، فإن فقدانه بين زملائه الدوليين لم يثر أي شفقة ، بقدر ما أثار تهكماً ، درجة أن أحدهم قال : ” لا غرابة فالليبي سيأتي حتماً على جمل ، وقد يصل بعد أن نغادر ” لكنه وصل في اليوم الثاني ، ليعتلي خشبة المسرح أمام المنصة ويبدأ حديثه ، لتشكل آراءه ونظرياته دهشة تقترب من التبلد عند الحاضرين ، مما أدى إلى قلب جدول الأعمال رأساً على عقب ، وأستبدلت المحاور بمناقشة ما طرح …!!!!

كان أمر عدم بروز المبدعين الليبيين ” الحقيقيين ” له تفسيراته الواضحة والجلية في أزمان ، لكن ذات يوم ، وعندما بثثت شيئاً من الشجون للدكتور ” علي فهمي خشيم ” بادرني بنظرته التي تفوق المتعارف عليه ، بغوصه في الأبعاد والخصائص والملابسات ، قائلاً :
” شوف يا عزالدين … المبدعون الليبيون مساهمون في الأمر ، فتواضعهم الشديد ونكران الذات ، الذي يقترب من الاستحقار للذات ، هو السبب ، بينما نجد الآخرين مسوقون لأنفسهم بشكل مبهر، ولا يخلو الأمر من الخداع في حالات كثيرة ، و بعض

هم بدون كفاءة ، وحتى بعض المتميزين في بلدانهم لا يساوون شيئاً أمام نماذج ليبية ، وإن كانت لهم مساهمات فهي ليست أعلى بدرحات عن الليبيين ” .
وحتى لا يبدو الدكتور علي فهمي خشيم مشتطاً في رأيه الذي صدمني ، أحال الأمر إلى عمليات تراكمية تنطلق من حركة المجتمع إلى طبيعة التعاطي الرسمي المحلي مع المبدعين مما كرس القناعات في العقل الباطن .

شخصياً … في رحلة السنين ، عشت حالات وجدت نفسي فيها مواجه لزملاء غير ليبيين في بلدانهم ، وكم كانت صدمتي كبيرة ، عندما اكتشفت الخط البياني العاكس للتفرد المهني عندهم متأرجحاً بين التواضع في المستوى ، ليعلو الخط ، لكنه لا يصل حد الإبهار إلا في لحظات قليلة و محددة ، ولأن سرد القصص التفصيلية بشواهد موثقة ، قد يعلل بأنه تسويق شخصي أجوف ، فإنني أحتفظ بها لنفسي إلى حين ، لكنها جرت بين عواصم فنية عريقة ، ودول خليجية متطلعة ، وهذا لا يعني الخلو من التفوق في هذه البلدان ، لكنه ليس تفرداً استثنائياً ولا يعكس فقراً عندنا ، و بخلاصة ليس علامة مسجلة لقطر ما ، وشخصياً أتطلع لكل قفزة يمكن الالتقاط منها حتى وإن جاءت من أدغال افريقيا … وبالفعل من الأدغال التقط ومضات تفتح الآفاق …

لوهلة ، يمكن بروز أسباب عديدة تشترك فيها عوامل متشابكة ، لكن لا يمكنني اعتبار ما يحضرني ملخص للتشخيص النهائي ، فتحليل الموضوع يحتاج إلى مشاركة آخرين ” منتقين ” للقيام بالمهمة حتى تتبلور بشكل مفيد ، لكنني سأختم هنا بحادثة أدهشتني ولم تغادرني لقياس درجة الجدية في البيئة و الرقي و رغبة الاستفادة .

ذات يوم ” والأيام واحدة كالسنين ” ولما كنت أحلم وقتها باقتحام سوق

عظيم في الصناعة البصرية ، كون البلد المستهدف هو من أوائل البلدان إبهاراً في الصناعة البصرية وهو ” الصين ” وتدهشني حد الإرباك إنجازاته ، سمحت لنفسي بالتطاول وعرض نظرية تسويق وعلاج بصري مخالفة للسائد عندهم ، على واحدة من كبريات شركات الإنتاج السمعي البصري ، استمع لي صاحبي بتمعن ، والاستغراب يعلو وجهه ، وعدم القناعة تعلن عن نفسها في ردود أفعاله ، وبعد ما أحسست بأنني كمن ” ينفخ في قربة مثقوبة ” أنهيت الحديث بترك الأمر له ولشركته إن اقتنعوا ذات يوم … كان طرحي قد أسبغ موجة من البرود ليكون البرود مغطي حتى لعبارات أمل اللقاء قبل عودتي للبلاد … ونسيت الأمر …

في اليوم التالي … أخذ هاتفي في الرنين من ذات الشخص الذي غادرته بالأمس في غيوم ملبدة ، لأسمع نبرات صوتٍ منفعلة نشطة و مُحيَّة ، ليقول بأنه اجتمع مع كوادر شركته ” الكبرى ” وحدثهم عن آرائي الغريبة ، وانتهوا لضرورة تبنيها في الحال ، وطلب مني اللقاء … !!!!

النهاية طبعاً حزينة …. لكن البطل لم يمت ، و لم يتحقق شئ لخطأ بناء أفكاري بوطني ، و عندما يكون الأمر مرتبط ببلد كليبيا بمن فيها من مسؤولين و بما يحيطها من ظروف ، دون امتلاك الوسائل الشخصية ، فحتماً ستكون التطلعات مولودة بتشوهات ، في حين أنه كان بإمكاني القفز على الجزئية الجغرافية ، تلك التي لم تُلحق بنا إلا الإخفاقات ، ومع ذلك نستمتع بالآم غصائصها كنوع من الأمراض المستعصية ….
﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :