شطر المدينة

شطر المدينة

بقلم :: محمد عبد الوارث 
انتهت مأموريتى وحصلت على الرقعة الورقية المذّيلة بشعار النسر والتى تفيد بأننى أديت الواجب لهذا الوطن، بعدما ذقت مرارة التخبط ولسعة الشمس الحارقة التى تستحلب نقاط العرق لأخرها ركبت الحافلة قاصداً محطة القطار ….
اهتزازة ….
فى الصغر حمل القطار الأسرة إلى موطن جديد… شاركت فيه الرفاق الجدد التلهى بالتجول والجيوب خاوية. تلمع عيوننا لمرأى المحال الغارقة فى إضاءات “النيون” الغامرة وبريق الأسفلت الناعم. وروائح مطاعم خابية الإضاءة يغشانا بين الحين والحين عِطر فواح تترجل صاحبته من سيارة فورد فارهة … متدثرة بفراء رقد على الصدر رأس صاحبه . تلوت أعناقنا جميعاً. لم نكن ندرك قيمة العطر أو الفراء …. أو السيارة الفارهة … تلاقت نظراتنا وعلت الوجوه ابتسامة لا أدرى فى ذلك الحين مغزاها رغم هذا نظل نتلهى بالتجوال … ونتلهى ونتلهى.
اهتزازة …..
معلق من ذراعى القابضتين على المشجب المثبت بسقف الحافة مضغوطاً أكابد حرارة الجو الخانق أتلمس قيام أحد الجالسين كى إريح البدن. وسؤال يدق فى الرأس. هل تبذل الجهد لقبول….؟ يستند الرأس على الذراع المعلق. واهتزازة تأخذنى خارج هذا العالم. أضيع ألم الضغط على ساقى بالتفكير فى الوسيلة التى أتفادى بها مثل هذه الماموريات ومعاناة البحث عن إجابة لهذا السؤال.
اهتزازة ….
الزحام وألم الوقوف يشعرانى كأنى سمكة تشوى. تاقت نفسى لنسمة هواء. قررت النزول قبل النهاية. أخترقت الكتل المتلاصقة دفعاً، لكزاً، حتى تحررت وتملكتنى رحابة الطريق بباطن الحذاء أطأ حافة الطوار متحسساً . أكتشفت أنى سرقت. زفرت ضيقاً. توقفت أعبث بفتحات جيوبى … تتوالى متسارعة فى رأسى الأسئلة. تلفت حولى…. … ضجيج السيارات وعوادمها لاينقطع.. …. يواجهنى غير بعيد مبنى الشرطة الضبابى اللون ….. بلا تردد توجهت إليه … أمسح بعينى المكان، جنديان يتبادلان الحوار وإراحة الأقدام، ورجل فى زى ضبابى يرمق كل عابر، الطابق الأعلى المطلى بلون غمامى … سيجت شرفاته بالقضبان … من خلفها تطل على الطريق وجود أطفال فى براءة مقتولة. يتعابثون يتصايحون. ملابسهم قدت من قماش رخيص متسخ. يتلاطم صياحهم مع ضجيج السيارات ولغط المارة ورنين الترام العابر. عبرت الطريق متشحً بالقلق وانقباض سرى داخلى، دلفت المبنى مررت متجاهلاً نظرات تساؤل واتهام. جاوزت يافطة “الضابط النوبتجى” الذى كان يجلس متوراياً وسط جمع مختلط الحديث. وأمام المكتب يقف طفل مهوش الشعر متسخ الوجنات والسروال . قد أطلت من أعلى سترته جزء من (فانلة) ممزقة. تمسك كتفه امرأة ممتلئة حادة الصوت. فوق صدرها ترقد سلسلة سميكة من الذهب. وقرطان ضخمان يتأرجحان فى أذنيها. الثوب مكشوف وملاءة تنسدل فوق الكتف رمقنى الضابط بنظرة وأشاح بوجهه عنى غارقاً فى النظر إلى المرأة التى تلوح بيدها اختلست نظرة إلى الإطار المعلق فوق رأسه؛ طائر ضخم يقبض فى شموخ على غصن صغير . المرأة تلوح بأساورها البراقة . الطفل فى نظرة مذهولة وصمت دامع.
– ألا تقل لى مع من تعمل
خفض الطفل ناظريه مغلقا أقوى دوائر الحديث.. أشار الضابط لأحد الرجال المتراصين حوله. جذب الطفل … ثم … و …. ملأ صراخه المبنى … ران صمت … وعين المرأة تجلجل بسعادة.
عاد للسؤال .
– ما اسمك ؟ رد ماسحاً دموعه بظهر يده.
– تو …. توفيق . بحدة باغتة الصوت الأمر.
– اسم أبيك يا ابن الـ ……. فى عجلة أجابة وحدقة العين تتسع.
– أدم حسن.
– ماذا يعمل ؟
– يخرج فى الصباح ويرجع أخر الليل.
– دفعه الرجل الوقف بجواره فألتصق بالحائط منهنها استدار الضابط محدثاً المرأة.
– هل لديك شهود ؟
– الشارع كله يشهد … التفت محدثاً الجالس بجواره – افتح محضراً
انتبه إلىَّ أقف غارقاً فى وجوم . أشار لى أن أتحدث :
– أود عمل بلاغ
– لماذا؟
– سرقت فى الأتوبيس المتجه إلى مصر الجديدة.
– ما أسمك؟
قلت ومحدقاً فيه بثبات … توفيق أدم حسن .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :