قصة قصيرة :: أحمد بشير العيلة
بعد ثلاث ساعاتٍ من إعلان تحرير المدينة، ماتت (زهرة) عن عمرٍ ناهز الثمانين عاماً، لا أجزم أنها سمعت خطاب التحرير كي يقف قلبها فرحاً، ربما هي المصادفة، بل القدر الذي رسم هذه النهاية في هذا التوقيت بالذات، أو بنظرة فلسفية قد تكون روحها هي التي تحررت، ربما هناك حكمة لا نعلمها ونخمّن أن يغطي الفرح على فقدها، ففرح تحرير المدينة أكبر من الحزن على منسية في ركنٍ قصيّ، أو ربما كي لا يشعر بموتها أحدٌ ممن تقاطعوا بكيفياتٍ متفاوتة مع حياتها، وربما لدعاءٍ في نفسها لم يسمعه أحد أن تموت في يومٍ يفرح فيه الجميع.
ربما كانت خيمة العزاء المنصوبة على استحياءٍ خلف العمارة الكبيرة في حي (البركة) هي الشاهد الوحيد على فقد أحدٍ بلا وجود، فحتى الجيران في نفس الدور سألوا مروان الصاعد والهابط على الدرج مراتٍ عدة ذلك اليوم من الشقة إلى الخيمة ومن الخيمة إلى الشقة، ولم تكن إجابته واضحة، عن سبب نصب خيمة عزاء بعيداً خلف العمارة:
– عمتي زهرة، لا أظنكم تعرفونها.
– عمتك أخت أبيك؟
– آه، أظن ذلك..
– ولماذا العزاء عندكم؟!
– لأنها عندنا….
واستمر مروان في حركته الصاعدة والهابطة وبقيت أسئلة الجيران حتى أولئك القاطنين في الدور نفسه تتصاعد وتخفت هي الأخرى فضولاً واستغراباً…
أظن أني رأيتها مرتين أو ثلاث مرات منذ عشرين عاماً حينما كنت أدخل بيتهم للمذاكرة مع مروان أيام الامتحانات الجامعية، ربما هي من ماتت حسب ظني عندما رأيت مروان وإخوته في الخيمة وقال : (عمتي) لا أدري لما قفزت تلك المرأة المركونة في ركنٍ قصيّ مظلم أمام عيني لحظتها، كنت أسأل مروان ذاك الزمن على استحياء:
– هذه جدتك؟
– بل عمتي..
لا يفصّل، ولا أزيد، ويلفنا الصمت ونحن نلج إلى الغرفة حيث ندرس، بصراحة كان المنظر يخيفني ويثيرني، امرأة تطأطئ رأسها وكل ملابسها بيضاء، وشالٌ أبيضُ يغطي نصف رأسها، مدلى من الجانبين، كاشفاً عن شعرٍ أبيض خفيف جداً مفروقٌ من الوسط بفرقٍ عريضٍ ينم عن تساقط فظيع لشعرها الذي لم يستطع أن ينعكس الضوء الخافت عليه إما لضعفٍ فيه أو لضعفٍ في الشعر، لا أعرف كيف رصدتُ كلَّ ذلك من نظرة عابرة وأنا أمرُّ من باب الشقة إلى الغرفة مرةً أثناء الدخول، وبنظرةٍ أكثر فضولاً وخيفةٍ وتوجسٍ أثناء الخروج…
في خيمة العزاء لم أستطع أن أسأل عنها، أهي التي ماتت؟؟، ربما لإحساسٍ مني أن الأمر مخجلُ لهم في عزاء صاحبة الركن القصيّ، بل أن الأصوات العالية في الخيمة والضحكات المسموعة دلت على عدم اهتمام من جلسوا في خيمة العزاء بصاحبه أو صاحبته، ولم يتعمق أحدٌ في السؤال والاستفسار عن صاحبة العزاء، أولاً كون المتوفاة امرأة، فالاهتمام يقل كثيراً، ثانياً كون المتوفى شبه مجهول لم تلمّع هويته كلماتٍ مثل (عمتي) (أختي الكبيرة) رحمها الله والعزاء واحد، ونقطة ومن أول السطر.
الركن القصي وحده هو من كان يبكي بشدة، كنت في خيمة العزاء أسمعه جيداً دون الآخرين، وحدي أحببت أن أجلس وحدي، لم أحب – على غير عادتي – أن أجالس أحداً، لأني أردت الإنصات إلى الجدار القصي القابع في الشقة رقم 14 في الدور الخامس، وأنا هنا في الساحة الخلفية للعمارة، وحدي كنت أسمع أنين الركن القصي، لقد طال العمر به وهو يحيط العمة (زهرة) بزاوية قائمة، وهي تجلس العمرَ على فراش إسفنجي رقيق، بل كي لا أبالغ ربما ثلاثون عاماً من العمر، وربما كان جزءً آخر قد يبلغ العشرين عاشت فيه منبوذة، أو لنقل عبئاً لكن دون انزواءٍ في الركن الذي اختارته لنفسها حسب ما يقول لي الآن وأنا في خيمة العزاء.
كان الركن يتوقف قليلاً عن كلامه لي ليعطي فرصة للنشيج الذي مسّ نياط قلبي، ثم يستأنف أن (زهرة) كانت مدللَةٍ في طفولتها وحبيبة والدها بل أنه كان يفضلها عن أبنائه الذكور الطائشين كلهم، واعتبرها الأكثر رجاحة ومسؤولية، لذا علّمها كل شيء وعرفها على كل ما يخص أعماله في التجارة والاستيراد والتصدير وما يلزم ذلك من إجراءات، وصاحبته في أسفاره التجارية وجالسته أثناء إبرام صفقاته، لكن ما إن كبر ووصلت هي الابنة الصغرى إلى سن الثامنة والعشرين، حتى بدأ يبيع محلاته ومخازنه، لأنه أدرك أن الذكور سيهملونها، أن المجتمع سيمنع فاتنة مثل زهرة أن تدير كل هذه الأملاك، وما إن مرّت سنتين حتى مات أبوها، ولم يكن همّ إخوتها الذكور الخمسة إلا أن يتقاسموا وينهشوا ما تركه والدهم وخاصة بعد موت أمهم بعد سنة، و(زهرة) لم تشاكلهم ولم تجادلهم، وبقيت تبحلق في مناظرهم وهم يتصارعون على المال، ففقدها لأبيها كان فقداً لحياتها.
– تفضل.
أرجعني صوت الصبي الذي مدّ إليّ سفرة كبيرة عليها عشرات من أكواب الشاي المرصوصة بنصفين أحدهما داكن (أكواب الشاي الأحمر) والآخر فاتح (أكواب الشاي الأخضر) الذي تناولت واحدةً منه تتمتع برغوة تغطي ثلث الكوب، رشفتها أولاً – حسب عادتي- لتذوب الفقاقيع الصغيرة في فمي، ثم أتابع برشفة وصلتْ إلى الشاي نفسه، وثالثة أكثر استعجالاً، كوني سمعت الركن القصي المَثْكُول يعاود نحيبه ويستأنف بوحه لي، فوضعت كوب الشاي عند القائم الأيمن الأمامي للكرسي البلاستيكي، وأصخت السمع للركن القصي وهو يتألم على ما فعل الأخوة بأختهم التي أجلسوها في البيت مانعينها عن العمل في إدارة إحدى شركات التأمين، بحجة أن لا أحد لديه الوقت ليأخذها إلى العمل ويحضرها منه، وأنه (ممنوعٌ) أن تستأجر سيارةً أو تشترك في حافلةٍ، أو تقود سيارة، فهذا معيبٌ يدينهم أمام رهطهم وأصحابهم، ووأدوا مجتمعين محاولة الخطوبة الوحيدة لها كونهم شكوا أن العريس على علاقة مسبقةٍ بها، بل وأجبروها أن تسحب من رصيدها بشكلٍ دوريّ لتصرف على المنزل، حتى ضعف وتلاشى، وشكا الركن القصي أنها كثيراً ما كانت تدعو على إخوتها الذين بخلوا عليها في المأكل والمشرب بعد ذلك، ورأيت دمعةً تسيل على الجدار، رفعت يدي لأمسحها وإذا صوت الصبي:
– يدك فارغة يا أستاذ، أين الكوب الفارغ..
قالها وعلى شفتيه نصف ابتسامة، وأنا لم أنتبه لنفسي أني أحرك يدي في الهواء هابطة على السفرة التي يجمع الصبي عليها الأكواب الفارغة، فتأسفت للصبي على الحركة اللاإرادية التي اعتقدت بلا إرادة مني أني أمسح دمعة الجدار، وتناولت الكوب من جنب القائم الأيمن للكرسي البلاستيكي الذي أجلس عليه، لكنني أحسست بالفعل أن سبابة يدي اليمنى مبلولة، يا إلهي… هي دمعة الركن القصيّ..
تزوج الأخوة واحداً إثر الآخر، و(زهرة) لا مأوى خاص لها، ولا حتى غرفة تخصها في أي بيتٍ من البيوت الخمسة، أربعة من الزوجات رفضن إقامتها معهم على الرغم من كونها لا تتوانى في رعاية أبناء إخوتها، وعلى الرغم من الاستضافات قصيرة الأمد لبعض إخوتها لها، لم يكن لها أي مكانٍ خاصٍ بها، كانت (الصالة) مأواها في كلّ بيت.
لم يكن لها أي خصوصية، كشابة ثم كامرأة بدأت السنون تجرها على صخورٍ ناتئة، حتى ملابسها صارت رهينة حقيبة خضراء باهتة كبيرة هبط جنباها من جلوس الزمن عليها، لم تتمتع (زهرة) بجدرانٍ تخصها، ولا دولابٍ يُوقِف ملابسها بعناية، ويخبئ بعض أسرارها وأوراقها ومقتنياتها، ولا بمرآة تصاحب رحلة عمرها، ولا سريرٍ تودعه آهاتها وحسراتها وزفراتها، كل عالمها صار حقيبة خضراء باهتة كبيرة هبط جنباها من اتكائها، أو مدّ قدميها المغروستين بوحل واقعها، أو من جلوس الزمن عليها، وكانت أريكات الصالونات في منازل كل أخوتها، سريراً ومقعداً وركناً تنزوي فيه، إلى أن قرر (نصرُ الدين) الأخُ الأحنّ – نوعاً ما – عليها، أن تقيم عنده، إلى أن يفرجها الله، وقد فرّج الله عليها بالموت….
– يا زهرة ستعيشين عندي، تأكلين من أكلنا وتشربين من شربنا، كفاكِ تنقلاً من مكانٍ إلى آخر، هذا بيتك – بيت أخيك، وأبنائي هم أبناؤك، وزوجتي اعتبريها صديقة لكِ.
لم تعلق زهرة، بل وقفت أمام أخيها ويديها ممسكة بيد الحقيبة الخضراء الكبيرة الموقوفة على أرضية الصالة، وهي تنظر في أركان البيت وتقول في نفسها، “أترى خصص أخي لي غرفة” لكن صوت أخيها قطع حبال احتمالاتها، وهو يقول:
– هنا يا زهرة، على هذا الفراش ستعيشين…
وأشار بيده إلى مرتبة إسفنجية رقيقة مفرودةً بين ذراعي ركنٍ قصي بزاوية قائمة، هو أنا….، لفّت رأسها بسرعة ونظرت إلى عيني أخيها وقد عقدت حاجبيها، وبقيت يدها ممسكة بيد الحقيبة، كسر (نصر الدين) عينه، وذهب، وبقيتُ أنا معها ثلاثين عاماً، لم تنبس فيها ببنت شفةٍ إلا لي، لم تنتهي خلالها كأنثى ولا كامرأة ولا ككيانٍ يبحث عن ذاته وأحلامه، بل انتهتْ في الزاوية القائمة … كإنسان..
نزلت دمعة أخرى من الجدار، خشيت أن أمد يدي هذه المرة لأمسحها ويراني الناس في خيمة عزاء امرأةٍ مجهولة، لا يعرف سرّها إلا أنا وذلك الركن القصيّ.
14/7/2017
اللوحة المصاحبة: المرأة الباكية
للرسام الإسباني بابلو بيكاسو (1881-1973)
رسمت يوم 26 تشرين الأول سنة 1937