بقلم :: سالم الهمالي
كان سائق التاكسي قد سأل الركاب قبل بدء الرحلة عن الطريق التي يحبون ان يسلكونها الى العقبة، وخيّرهم بين الطريق الصحراوي وطريق البحر الميت، لم يعبأ بقية الركاب بالأمر فالرحلة ليلية، ولن يستطيعوا ان يروا الكثير في هذا الظلام الدامس، إلا ان سلام وبطبعه في التعرف على ما حوله اجاب السائق بطلب، وهو ان يَقُول ما تتميز به الطريقين، ثم يختار ما يراه مناسبا.
السائق ( ابو عبدالله) كما أشار الى اسمه قال: الصحراوي هيا الطريق التي سلكها لورانس العرب، والبحر الميت بتعدي على وادي عربه!! ثم التفت على عجل الى الخلف واختلس نظرة الى سلام وسأله: انت بتعرف قصة لورانس ابوبطيخ، ام ترى ان عاجبك ما عملوا في وادي عربه ؟!
سكت سلام وعلى شفتيه ضحكة ساخرة من كلام ابو عبدالله واستعماله للكلمات ( أبوبطيخ)!!، وتظاهر بانه لم يسمع ما قال السائق ابوعبدالله، لكن ابو عبدالله لم يتركه، وأعاد السؤال، مضيفا، بتعرفوا الزلمه ابوبطيخ ؟!
سلام الهارب من العراق، والذاهب الى المجهول ما كان ليجيب على مثل هذا السؤال، فهو يعرف قوة المخابرات الاردنية، خصوصا انهم وقّعوا اتفاقية سلام مع اسرائيل، عُرفت باتفاقية ( وادي عربه)، ووجدت معارضة خصوصا في صفوف الأردنيين من اصل فلسطيني، فآثر الإجابة السلبية وأنكر معرفته بالاثنين، وترك لأبو عبدالله حرية الاختيار، قائلا: اختار انت وبعد خيارك حلو …
الطريق الصحراوي اقصر مسافة وأقل تعرجا، ذاك يبدو ما دعى ابو عبدالله ان يسلكه، وعلى صوت سعدون جابر تلاشى الزمن. سلام الذي لم ترى عينيه النوم، كان ينتظر في اول مدينة او استراحة على الطريق، حتى ينزل من التاكسي ويحرك أرجله حتى يجري فيها الدم، كان خائفا على زوجته، ولأنه طبيب يخشى ان تصاب بجلطة في ساقيها، نتيجة الوعكة الصحية التي ألمت بها قبل ايام، وجلوسهم في الكرسي الخلفي للسيارة الذي يمتاز بالضيق. بعد ان نفذ صبره، سأل: لا توجد استراحة بالطريق يا ابو عبدالله ؟ .. اجاب ابو عبدالله بصوت مرتفع: ما كنت تختار طريق البحر الميت احسن لك، فيها استراحات اكثر.
الحديث مع ابو عبدالله حول الطريق جعل سلام يدقق نظر عينيه في ابو عبدالله، وصار يلحظ فيما يظهر انه تململ عليه، مرة يحرك كوفيته، واُخرى يميل يمنة ويسره، وآثاره أكثر عندما فغر فاه ومد يده ليغطيه مع تثاووب طويل. يا بو عبدالله .. يا معود .. انت نائم ؟!
لا لا هذا ليس بنوم، انا بس بأشحط ذراعي …
وسط سكون الليل وظلامه إلا من صوت محرك السيارة وهي تقطع الطريق الى العقبة، وصوت سعدون من ميكروفون السيارة، تولدت رغبة جامحة لمواصلة الحديث بينهما، ابو عبدالله ليدفع عنه سلطان النوم، وسلام حتى لا ينام ابو عبدالله، وينامون معه الى يوم البعث !!
وجد ابو عبدالله فرصة بطرح سؤال على سلام، انت عراقي ؟!
ايوه .. انا عراقي من سامراء
يا هلا يا هلا بإخوتنا اهل سامراء ، رجال والله، كل العراقيين زينين، صدام هو بطل، انتصر على ايران، ضرب اسرائيل .. ما في ولا رئيس عربي ضرب اسرائيل.
علق سلام: نعم صحيح، واخد الكويت بعد !!
تفوه ابو عبدالله بكلمات غير لائقة لوصف الكويتيين، وأضاف … يا خسارة اجتمعوا عليه، كل العالم اجتمع عليه، لولا هيك ما كان يطلع من الكويت، فيها بترول كثير … كثير كثير ..
تمتم سلام بكلمات لا تكاد تسمع .. الله يلعن البترول ما راينا من ورآه غير البلاء !!
ثم سال ابو عبدالله، ممكن نتوقف قليلا نشم هواء، ونحرك أرجلنا ؟!
ادرك ابو عبدالله الاشارة، هداء من سرعة التاكسي وعرج بها على جانب الطريق حتى توقفت تماماً، وبصوته الجهوري ايقظ الركاب الغارقين في النوم .. راحة ربع ساعة.. حركوا رجليكم، واقضوا حوائجكم …
ما كان ابو عبدالله يدرى ان سلام يكره الوضع في العراق، فهو احد ضحايا الحرب العراقية الإيرانية، ويرى انها خطوة من خطوات تدمير البلد. فما ان انتهت الحرب الاولى مع ايران حتى جرتهم الى الحرب الثانية بعد قرار صدام الدخول الى الكويت. وها هم الان يعانون ويلات الحصار.
نزل الجميع من التاكسي، وتحلقوا حولها، ما عدا سلام وهدى اللذان اطلقا العنان لأرجلهم ان تمشي مسافة ليست ببعيدة، فالظلام جعل ذلك متعذر، لكنه أتاح لهم فرصة للحديث معا بعيدين ان تلصص آذان مرافقيهم بالتاكسي، ووجد فيها سلام سانحة، لِيشد من ازر حبيبته التي أرهقها السفر وتوابع الأعراض الصحية بكلمات تعبق بالغرام.
هيا يا جماعة .. هيا يا جماعة … صوت ابو عبدالله ينادى لمواصلة الرحلة الى العقبة، بعد ان استشعر حالة من النشاط تعتريه، خصوصا انه ارتشف من إبريق القهوة التي عادة ما تعدّها ام أولاده قبل كل رحلة سفر طويل، ومرر نفس الكوب على الركاب، شربوا منه، الا هدى وسلام الذين تظاهروا بعدم الحاجة، ولكن الحقيقة هي انهم لم يرتاحوا لشرب القهوة من كوب لامسته شفاه عدة. انطلقت التاكسي من جديد، على نفس المنوال، الا ان الجديد هذه المرة هو انتعاش ابو عبدالله، وبدأه في سرد ما يعرفه عن تاريخ مدينة البتراء الاثرية …
يتبع الحلقة ( ٣) ……. رواية