سموُّ اللغةِ وعُمقُ الصورةِ الشعريةِ في (لعلهَا شجرةٌ بعيدةٌ)   

سموُّ اللغةِ وعُمقُ الصورةِ الشعريةِ في (لعلهَا شجرةٌ بعيدةٌ)   

بقلم :: يونس شعبان الفنادي(*)

قبل أن أتشرف بمعرفة الصحفي الكبير الأستاذ محمود البوسيفي صديقاً فكرياً تتفاوت درجة التجاذب والاتفاق أو الاختلاف معه ومعارضته بكل روح رياضية حول الكثير من المسائل، يظل أستاذاً قديراً ومتميزاً أدينُ له بالفضل، مع أدباء وكتاب آخرين غيره، في الارتقاء بذائقتي الأدبية والصحفية من خلال ما أبدعه من مقالات وكتابات ذات نكهة مميزة سواء أثناء مواظبته على تطريز صحافة العمود بالجرائد الوطنية، أو من خلال تحليلاته السياسية والفكرية، وقراءاته التاريخية العميقة التي  أبانت مبكراً عن علو كعبه في هذا المجال وحضوره المشرف على الصعيد الليبي والعربي.

كما أعتز كثيراً بما أسداه وقدمه لي شخصياً من تشجيع ودعم معنوي في بواكير مساهماتي الصحفية والإعلامية، ودفعه لي بالكتابة والعمل في العديد من المواقع التي تولى الإشراف عليها، بعقلية إدارية نالت احترام وتقدير الكثير من الأوفياء. وبالإضافة إلى كل هذا، فلا أحد ينكر ما يميز شخصية الأستاذ محمود البوسيفي الودودة من محبة وحميمية، وصدقية مشاعرها تجاه الروح الإنسانية لجميع الزملاء في الوسط الصحفي والثقافي، وتبنيها قيم الخير والبهجة بجميع أشكالها، ولعل أبرز ما يؤكد ذلك هو أيقونة شعاره الترحيبي الجميل الذي اشتهر به عند الجميع وهو “اللهم صلِ عالنبي”.

وهنا لابد من الاعتراف بأنه حين أرسل لي وأهداني مجموعته الشعرية الأولى المعنونة (لعلها شجرة بعيدة

(1)

فهو قد منحني بها فيوض محبته الوافرة بلا ضفاف، ووقتاً رائقاً لمعانقة نصه الشعري المفعم بالعذوبة والحكمة والدفء الذي ظل طويلاً متخفياً ومتوارياً عن الظهور أمام الحضور الباذخ لمقالاته المتنوعة سواء التي سطرها في زاويته الشهيرة (من حدائق التراب) بصحيفة “الشط” أو على صفحات جريدة “أويا” التي تولى مهمة رئيس تحريرها منذ بداية صدورها وحتى قبيل توقفها نهائياً بفترة قصيرة.

(2)

يعتقد البعض أن علاقة الأستاذ محمود البوسيفي بالنص الشعري قد ظهرت أثناء مشواره الصحفي والإبداعي متأخرة وحديثة العهد وربما وليدة الظروف الراهنة، ولا يعرفون أنه عانق هذا الجنس الإبداعي منذ مراحل تكوينه وبداياته الأدبية الأولى، وقد سعدتُ كثيراً بمطالعة بعض نصوصه الشعرية المبكرة التي نشرها الأستاذ الصحفي سعيد المزوغي بمجلة (كل الفنون) في منتصف سبعينيات القرن الماضي حين كان أميناً لتحريرها، وفي تصوري فإن تلك الفترة البعيدة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها عند قراءة وتتبع مسيرة النص الشعري عند محمود البوسيفي، بل لابد من الرجوع إليها باعتبارها إرهاصات الاهتمام والافتنان الشعري المبكر، والتأكيد على أنها البذرة الأساس التي أنتجت مجموعته الشعرية الأولى (لعلها شجرةٌ بعيدة).

(3)

لقد نشر الأستاذ محمود البوسيفي نصه الشعري (خطوطٌ بنفسجيةٌ على جسدِ المسيح) الذي يهديه (إلى الشاعر الإنسان أمل دنفل) سنة 1975 بمجلة “كل الفنون” ويستهله قائلاً :

(وطني والمساءُ الحزينُ … القادم

عبر الكهوفِ الموحشة ..

والعوسج الملعون .. وخروج الصباحِ

الميت خارج دوائر … اللعبة …

.. والسنين العجاف ..

تحسبني رقماً … يا وطني … تحسبني

جيفة .. تحسبني ماضٍ أليم ..

و…. تحسبني يا حبيبي سهلاً مقفراً

وأني … وأني … وأني …

ولستُ يا وطني سوى أقحوانةٍ تبشر

بمولد .. الربيع ...)(2)

في هذا الجزء الافتتاحي من النص نلاحظ الانشغال والحضور المبكر للوطن في وجدان الشاعر، وتواصله الفكري مع انتاج المبدعين والشعراء العرب خارج حدود الجغرافيا الوطنية، ومشاركتهم القضايا الأدبية والقومية كافة، بروح مفعمة بالانحياز لكل تلك المباديء الوحدوية والثورية، والقيم الإنسانية المشتركة. وقد تفاوتت مناجاته للوطن بين زفرات الوجع والأنين والألم، والانصهار في صورة المبشر بالخلاص والحلم الربيعي الذي يتمناه الشاعر، منذ ذاك الزمن البعيد، لوطنه.

أما نصه المعنون (الأسئلة النوافذ) الذي خلا كلياً من التصريح بأي شكل من أشكال الأسئلة المباشرة عكس ما يوحي به عنوانه الدلالي المخاتل، وهو منشور بالمجلة نفسها، فيقول في مستهله:

(وصلتُ…

سرقتُ كلَّ ما في جراب قافلة الغرباء من أغاني

نحرتُ إبلَهم النائمةَ في غفلةٍ من القمر ..

ورجعتُ للعشيرةِ المسهدةِ العيون ..

ألوكُ ما قالته الأساطيرُ في أبوابِ: الغزو .. الفتك .. التراجع)(3)

لقد أجاد الشاعر في افتتاحية نصه رسم بانوراما شعرية تداخلت عناصرها الفنية بين التراث العربي القديم المتأسس على مكونات وطقوس العشيرة، وربطها بحالة الوطن الحديث ومعاناته الراهنة، وهو من خلال ذلك، وبين الزمنين، ينسج بصوت الراوي نصه الشعري بكل إتقان وعذوبة، وتشويق يتواصل حتى تتكامل لوحته لتبرز وجهاً حقيقياً لما يختلج في أعماقه النقية.

وعند التمعن في هذين النصين الشعريين من بواكير ابداعات الأستاذ محمود البوسيفي الشعرية نكتشف جمالية وعمق ووضوح اللغة وموسيقاها الزاخرة بالإيقاعات القادرة على استيطان نفس ووجدان المتلقي والتفاعل معه فكرياً. واللغة هي بلا شك (.. الظاهرة الأولى في كل عمل فني يستخدم الكلمة أداة للتعبير، هي أول شيء يصادفنا، وهي النافذة التي من خلالها نطل ومن خلالها نتنسم. وهي المفتاح الذهبي الصغير الذي يفتح كل الأبواب، والجناح الناعم الذي ينقلنا إلى شتى الآفاق، وقد عرف الإنسان العالم، أو حاول أن يعرفه لأول مرة، يوم عرف اللغة”(4).

وإضافة إلى جمالية المفردة والعبارة اللغوية فإن تأثيت الصورة الشعرية في كامل النص عند شاعرنا البوسيفي جاء ثرياً بالعديد من الاقتباسات والأخيلة والصور البلاغية التي تنسج وتشكل مجتمعة رسالته بكل اقتدار وجمالية تتوحد فيها الموسيقى مع المضمون والبلاغة بكل أبعادها.

وما أحوج مدونة الشعر الليبي، والشاعر نفسه، إلى تجميع كل أشعار وإبداعات البواكير السابقة وتوفيرها للمهتمين والنقاد والدارسين حتى تستكمل القراءة النقدية وتستخلص مؤشرات تطور النص الشعري في صورتها الفنية الشاملة.

(4)

تبرز شاعرية المجموعة الأولى (لعلها شجرة بعيدة) للصحفي الكبير الأستاذ محمود البوسيفي بداية من واجهة لوحة غلافها التشكيلية التي صممها بنفسه ليؤكد ملكته ومهارته في الرسم والتصميم الفني، واختار مكوناتها البسيطة المتمثلة في فضاءها الصحراوي المفتوح الشاسع، تحكيه سيوف الكثبان الرملية وتموجات لونها الترابي المتباينة، ورجل حافي القدمين، يرتدي البياض، يمشي وحيداً بلا متاع، يزرع خطواته على الرمال الساخنة الملتهبة، تاركاً آثار قدميه الحافيتين خلفه شاهدة على رحلته، وهو يمضي.. بعيداً .. بلا اتجاه معين وكأنه ينشد أحلاماً لعلها تكون.. شجرةً بعيدة.. يبحث عنها .. فيجدها ذات زمن .. في مكان ما.. وسط الصحراء أو وراءها. بعد ذلك يأتي إهداء الشاعر الذي اختار أن يوزعه على والديه (إلى أبي مرةً أخرى … إلى أمي دائماً) .. ثم يطالعنا اقتباسه بيتٍ من أبيات الشاعر محي الدين بن عربي:

وما عليّ إذا ما قلتُ مُعتقدِي    دعِ الجهولَ يظنُ الحقَ عدوانـــَــا

وفي هذا الاقتباس إشارة قوية إلى متانة علاقته الروحانية والفكرية المرتبطة بأحد أكبر شيوح الطريقة الصوفية، الذي يتقاسم معه الكثير من المشترك المتعلق بتأمل جماليات الأشياء، وأهمية الخيال الخلاق للوصول إلى الحقيقة المطلقة وفهمها، وغيرها من الآراء الفلسفية المستنيرة. ومن هنا ندرك أن الشاعر الفيلسوف الصوفي ابن عربي كان أحد الروافد الأساسية التي ارتوى شاعرنا محمود البوسيفي من أفكاره، ونهل من ينابيعه الصوفية، وتعمق في فلسفته، عند تحليل الماديات وفهم الروحانيات للوصول إلى بعض اليقين.

وظهرت فيوض الألق في نصوص محمود البوسيفي متجلية في صناعة مفرداتها القادرة والمتمكنة من الغوص والتوغل في الوجدان والفكر بكل انسيابية، والتي لا يملك المتلقي إزاءها إلا معانقتها والارتماء في أحضانها بكل رغبة ولهفة وإنتشاء. وإن تميزت كل النصوص بقلة عدد سطورها وتركيبتها البنيوية البسيطة على غرار قصائد “الهايكو” اليابانية أو “الومضة”، فهي زاخرة بكل شيء جميل وصادق، بداية من المعنى الدلالي العميق الذي نقشته المفردة المنتقاة بكل عناية واللغة المكثفة إجمالاً، إلى الجرس الموسيقي الرنان الظاهر والخافت، وإن غلب عليه أنين الشاعر وشجن مواجعه المتوارية خلف دفقات قلبه الياسميني الباسمة وقناديل فكره المستنير.

(الناسُ الذين كنتُ أعرفُهم

صارتْ ملامحُهم بمذاقِ الغيابْ ..

أخشى حين ألتقيهم أنْ أعبرَ

طريقَهم في عجلةٍ ..

ولاَ ألتفتْ ..)(5)

تظهر هنا سيولُ الدموع اللامرئية غزيرةً جداً، ومريرةً قاسيةً بكل جراحاتها المتهاطلة من أنين البوح بآلام القلق والخوف على فقدان الرفاق والخلان والأصدقاء والزملاء والمعارف والأحبة .. الذين شملهم وجمعهم في مفردة “الناس“.. حتى وإن لم يؤكد شاعرنا أو يحزم أمره بعد تجاه أولئك “الناس“، بل ترك باب الزمن مفتوحاً مثل أبوابه المشرعة بالمحبة، حين انتقى كلمة “أخشى” وهي فعل غير حاسم ونهائي صارم، فجاءت الصورة الشعرية في هذا النص القصير مكتظة بكل آهات الوجع والمعاناة التي سجلتها السطور الحزينة بنفس مضطربة، تتصاعد أناتها وعذاباتها مع كل شهقة للروح الشاعرة، وفي نفس الوقت تُبقي على بعض الأمل المفعم بالبهجة، لأن روح الشاعر تدخر دائماً شموس النور وبذور الخير في شرايينه وأعماقه، وتحتفظ بكل أحلامه وأمنياته الوارفة من أجل الأصدقاء وأطفال وأشجار بلاده، وكذلك من أجل الإنسان نفسه كقيمة ذاتية.

أما في نصه “أشرعة” المتكون من أربعة مقاطع قصيرة يهديها إلى صديقه الشاعر الراحل جيلاني طريبشان فإننا نجده يختصر كل الكلام البليغ والوصف البديع حين يسرد لنا المقطع الثاني حكايةً منقولةً في ثلاثة سطور قصيرة، يرويها كالتالي:

(ويُحكىَ ..

أنَّ الصقيعَ داهمَ الشاعـر

فسَالتْ الأودية ..)(6)

وهنا نراه يترك للمتلقي التأمل والتدبر والتفكير في ماهية “الأودية” و”الصقيع” وعلاقتهما بالشاعر مبدع النص أو الشاعر المهدى إليه، ودلالتهما وأبعادهما، رغبة منه في إشراك المتلقي وإقحامه داخل نصه، وتدوير محركات عقله للإبحار في عوالمه الغيبية التي تظل خارج إطار نصه الشعري المكتوب ولكنها أساس بنيويته الإبداعية وتخلقه الفني.

ولم يشأ شاعرنا البوسيفي أن يجعل خاتمة نصه اعتيادية أو تقليدية بل اختارها للحديث عن الأنثى، أياً كانت إنساناً معيناً أو طيفاً أو رمزاً مطلقاً، واسترجاع ذكرياته عند نقل مشاعر قلبه تجاهها. وهذا الانقلاب ليس غريباً عند عشاق الشاعر ابن عربي وفلسفته الصوفية المتأسسة على مقولته (كل شيء لا يؤنث لا يعول عليه) لذلك جعل شاعرنا نهاية نصه مزدانةً بإطلالة أنثوية أضفت عليه الكثير من البلاغة الدالة على البراعة والتمكن من اللغة وإظهارها لفظياً وحسيّاً بشكل جذاب وآسر:

(رويتُ لها حكاياتٍ كثيرةً

وأعترفُ الآن أنني لا أذكرُ

سوى أنني كنتُ أقولُ لها

متلعثماً في فصاحةٍ ..

أُحبُّـك)(7)

ولم تغب الحكاية الشعرية عن (لعلها شجرة بعيدة) حيث جاء نص (الأسياد) محاكاة شعرية لقصة قصيرة مكتملة الأركان والعناصر بإيقاع موسيقي مرهف متواري خلف الكلمات التي تراقصت مع محيطها بكل عذوبتها السردية البليغة:

(في ركنِ الممرِ الأنيق

يرتعشُ قنديلٌ كهربائي

من خامةِ الزنك ..

قال الصبي أمام المصعد

إنَّ الضوءَ يلعب ..   

ولم يقلْ أحدٌ من الواقفين

أمامَ البابِ المغلقِ شيئاً..

رغم أنه لم يكن أمام

المصعدِ أحدٌ غيري ..)(8)  

أما قصيدته (إجهاشة) فقد مثلت دعوات ونداءات رقيقة ومعبرة نثرها الشاعر في فضاء إلهامه، مناجياً بها طيف خياله الذي تعددت أوصافه داخل النص الشعري فكان “شقيقة الروح” و”سيدة العناصر” و”اليمامة” و”جميلة الجميلات” و”آخر الجولات” و”أول الأحلام”، وقد احتوت تلك المناجاة مراوغة لغوية زاخرة بالموسيقى وبلاغة طباق الصورة الجمالية الخلابة:

(تعالي ندغدغُ الوُعُـولَ واليرابيع

ونحنُ نصنعُ الشِراكَ للوعولِ

واليرابيع)(9) 

وداخل متنها حملت مجموعة (لعلها شجرة بعيدة) كتاباً مميزاً هو “كتاب الغربة” متضمناً إحدى عشر نصاً، اكتظت جميعها بزفرات وبوح مكثف موجع. كلماتٌ قصيرة مبللة بالدمع الخفي الصامت وغارقة في الكآبة والحزن القاتم، اختصرت العديد من التجارب والمعاناة، وكُتبت بأنياط قلبٍ ممزق تتقاذفه أحاسيس المواجع والأشواق. تفاوتت تركيبات مفرداتها اللغوية وكلماتها وعباراتها القصيرة فجاءت بليغة حد الحكمة الموجزة المبهرة التي طرزتها صور شعرية متكاملة، منها:

(الغربة .. أن تقترب وأنت البعيد .. أن تبتعد وأنت القريب)  

(الغربة .. أن تبتكر حديقة دون عطر ..)  

(الغربة .. تغوّل الحنين ..)  

(الغربة .. أن تدفن حياً .. يومياً)  

(الغربة .. غريق يستغيثُ بغيمة ..)  

(الغربة .. استنطاقُ للوجع ..) 74

(الغربة .. كأن تدعو جثة للرقص ..)(10)

أما عنوان المجموعة الشعرية (لعلها شجرة بعيدة) فقد جاء مقتبساً من إحدى قصائدها التي اختارها الشاعر علماً وعنواناً للمجموعة بأسرها، وحتى إن صار هذا السياق أمراً مألوفاً في عنونة المجموعات الشعرية الصادرة حديثاً، فلابد من التوقف عنده وتأمل ذاك العنوان الواجهة كعتبة نصيّةٍ مميزة تطوي كل القصائد الأخرى، لأن معظم العناوين والاقتباسات التي يختارها المبدعون لا تكون عفوية غالباً، بل تنطوي على علامات صريحة ومستترة، حول طبيعة تلك النصوص، وقصتها ورسائلها المحتملة، باعتبارها مدخلاً للولوج إلى أعماق المجموعة كلها وسبر أغوارها، وإشارة معينة من الشاعر إلى المتلقي تتطلب التمعن في فحواها وتفكيكها لمحاولة اكتشاف تميزها وسر تخصيصها، والبحث عن مفاتيح علاقتها الخاصة بالشاعر:

(لا شيء لكِ بحوزتي ..

سواكِ ..ونهرٍ من حنينْ

لا شيء سوى جنينِ حزنٍ

يكبرُ في كُلِّ حينْ

لا شيء تقريباً سوى بحرٍ وسماءْ ..

وسرب قطا يلاحق

غيمةً بيضاءْ ..

لا شيء في محيطِ الخاطرِ

لا شيء لك بحوزتي

سوى الطينِ يتشكلُ كائناتٍ مرحة

تركضُ حيثً لا حيثُ ..)(11)  

 (5)

إذا كان النص الشعري هو كتابة زمن لا يمكن فصله عن المكان فإن (لعلها شجرةٌ بعيدة) للشاعر محمود البوسيفي جعلت المكان والزمان فضائين ملتحمين ومفتوحين تتماهى فيهما كل الأمكنة والأزمنة بلا تحديد أو إعلان، فظهرت كل النصوص بلا تاريخ ولا مكان توثيقي، مما يمنحها امتداداً أفقياً بعيداً، وحياة زمنية طويلة تتجاوز أزمنة الماضي والحاضر. أما على صعيد استقرار واستيطان فكرته الشعرية ورؤيته البلاغية في أعماق ووجدان المتلقي فقد ضمنت لغة البوسيفي الثرية ذلك، وتجاوزت بعيداً مقولة الفيلسوف الصوفي محمد عبدالجبار النفري الشهيرة (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) لأن البوسيفي أجاد بكل دقة وإتقان تطويع لغته وعباراته الشعرية الثرية المنقوشة بكل احترافية لكي تتسع مساحات فضاءاتها وقواميسها لنقل فيوض مشاعره وأحاسيسه ورؤاه وأفكاره ونسج صوره البلاغية للتعبير عن معاناته الماضوية والآنية وأحلامه البسيطة.

ولذلك فإنه عند التفكير بمطالعة نصوص الأستاذ محمود البوسيفي الشعرية في مجموعته الأولى (لعلها شجرةٌ بعيدة) يستوجب علينا أن نتهيأ جيداً قبل بدء رحلة القراءة العاشقة، لأننا سنكون أمام نصوص تستدرجنا بسلاسة إلى عوالم اللغة والفلسفة والوفاء والصورة الشعرية الجميلة المستوطنة بأعماق النفس البشرية منذ أن صار الشعرُ زُلالاً حسيّاً له حضوره البهي وطقوسه النبيلة. إضافة إلى ذلك لابد أن نعي جيداً بأن البوسيفي لا يستعمل الكلمات وحدها في صياغة نصه الشعري، بل يهبنا بها ومن خلال نقوشها المطرزة الجميلة، دفقات وجدانية نقية من أعماقه، يعزفها قلبه النابض بالمحبة وترويها دموع صباحاته ولياليه المتعاقبة، فتفوح منها دائماً رياحين الحناء والياسمين والورود وتعبق بعبير النفس البشرية التواقة للبهاء والارتقاء إلى فضاءات تعيد فيها اكتشاف ذاتها وكينونتها.

لقد كان شاعرنا محمود البوسيفي بارعاً بأسلوبه اللغوي الجميل في صياغة وتكوين صور ومناخات وإيقاعات مبتكرة بمفرداته العميقة المضمون والبسيطة التركيب، ومن هنا تتأسس وتكمن بنيوية اللغة الشعرية الحقيقية المتفردة التي يطوعها الشاعر لكي تتجاوز ألفاظها ومفرداتها نسقها التعبيري التقليدي الاعتيادي في الرمز والدلالة، ويضيف إليها الكثير من العذوبة والإثارة والدهشة لتكتسب خصائص إضافية تجعلها تتفوق على ذاتها ومدلولها الكلاسيكي، في خلق مناخ شعري مبهرٍ، يفاجيءُ الشاعر نفسه والمتلقي كذلك، ويصل إلى مرتبة أحسن الكلام التي عبّر عنها أبوحيّان التوحيدي في كتاب الإمتاع والمؤانسة بقوله (أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم).

إن كل هذا يجعلني أؤمن بأن محمود البوسيفي في (لعلها شجرةٌ بعيدة) قد سجل تواصلاً زمنياً مترابطاً وتطوراً جلياً مع نصه الشعري طوال مسيرته الإبداعية التي انطلقت منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان فيها منسجماً ومتوحداً بكيانه الإنساني والفكري مع ذاته الشعرية المبدعة المرهفة، وعلى درجة عالية من الوضوح والسمو والشفافية، حد العُـريّ، وهي مرتبة لا ينالها إلا الصادقون في أعمالهم .. وما أندرهم في هذا الزمن !!

(*)  أديب وكاتب وإعلامي مستقل من ليبيا، للتواصل : Fenadi@yahoo.com

(1)  لعلها شجرة بعيدة، محمود البوسيفي، شعر، دار الرواد، طرابلس – ليبيا، الطبعة الأولى، 2017

(2)  مجلة “كل الفنون” الصادرة عن المؤسسة العامة للصحافة، العدد (22)، بتاريخ 10 مايو 1975، ص 47

(3)  مجلة “كل الفنون” الصادرة عن المؤسسة العامة للصحافة، العدد (27)، بتاريخ 10 أكتوبر 1975، ص 51

(4)  الشعر العربي المعاصر وقضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، د. إسماعيل عزالدين، دار العودة، بيروت، ط2، ص173

(5)  لعلها شجرة بعيدة، ص 56

(6)  المصدر السابق، ص 17

(7)  المصدر السابق، ص 19

(8)  المصدر السابق، ص 8

(9)  المصدر السابق، ص 28

(10)  المصدر السابق، ص 58 – 94

(11)  المصدر السابق، ص 95

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :