محمود السوكني
لست متفائلاً هذه المرة ، صدى طبول الحرب تشق عباب السماء تنبيء بصدام مسلح دامًِ لم تشهد العاصمة المنكوبة مثيلاً له ، كل الحوادث السابقة في كفة وهذا الإحتراب الذي تأجج في كفة أخرى .
الطرفان إستعدا بكامل عتادهم ، وجندا كل قواتهما وتبرع من حولهما بالهتاف والتصفيق ، وعلى سكان العاصمة الآمنين أن يرضخوا لمصيرهم المحتوم ، ليفز من يفز ولا مانع أن يضيع ما تبقى من وطن .
عفواً ، عن أي وطن تتحدث ؟! سؤال خجول تلفظ به مواطن وهو يداري حزنه!
قلت :
ليس أعز على الإنسان من وطنه ولا اغلى من ترابه ، ففيه نشأ وعلى آديمه ترعرع و نسج ذكرياته بحلوها ومرها شهد طفولته ، و عرفت مساربه صباه برعونتها و طيشها و تهورها ، و صقل على مدارجه شبابه و تكونت على دروبه ملامح شخصيته من طموح حالم و توق متقد و شوق عارم ، يهفو للنجاح و يرنو للتفوق و التميز و تحقيق الأماني الغاليات .
عن هذا الوطن اتحدث..
الوطن ذاكرة الحياة ، و سر جمالها و سبب وجودها و من لا وطن له لا حياة له ، و لا معنى لوجوده ، فهو أقرب ما يكون إلى الشيء المهمل الذي تتقاذفه الأنواء ، و تذروه الرياح وتعصف به الأعاصير .
هذا هو الوطن الذي يعنيني وقد لا يعنيهم في هوجة سباقهم المحموم نحو إمتلاك كل شي ما عدا الوطن الذي تحول على أيديهم إلى ساحة للصراع الدموي الذي لا نعرف له نهاية ..
لا طعم للدنيا بدون إنتماء و لا ضرورة للوجود العدمي الذي لا ينتسب إلى هوية تحفظ تاريخه و ترسخ جذور ارتباطه و تحقق جدوی بقائه و تؤكد معنى لوجوده .
قد نفقد الأهل و نضيع الأصدقاء ، و لكننا أبدأ لا نفرط في ذرة تراب من الوطن الذي إليه ننتسب و بهويته نعتز ، و بتاريخه نفخر و نزهو و إن كانت بعض ملامحه قاتمة وإن كانت بعض جوانبه مظلمة فنحن من صنعها ونسج فصولها وأدار وقائعها وأحداثها .
نجوب الدنيا و قلوبنا معلقة على جدران الوطن ، نطوف الأمصار و الأوطان و عيوننا مشدودة إلى حوارينا و أزقتنا و شوارعنا و مراتع صبانا ومكمن هوانا .. عندما يصوغ العشق أشجانه ، تكون ليبيا .. و عندما يهيم بنا الشوق ، تكون ليبيا .. و عندما يكون الفرح تكون ليبيا .. وحدها التي تصنع بهجته و هي من يحبك فصوله و يبعث أسبابه و دوافعه .
لها وحدها يكون الانتماء ، وبترابها المقدس يكون الانتساب والولاء و من أجلها تكون التضحية ويحلو الفداء
هي ليبيا وعاصمتها الفاتنة طرابلس التي تتبارون في تقطيع أوصالها والتنكيل بجسدها الواهن ..
تمعنوا في ما جاء على لسان الإبن البار وهو يقدم فروض الولاء والطاعة على اعتاب الوطن /
“لو تؤمريني
فوق نسمة انطير
و نجيبلك حزمة نجوم تنير“
نشيد الشعب وصيحة أبناء ليبيا الذين يعلمون معنى الانتماء وصدق الهوية و عمق الأصالة و حقيقة الارتباط الذي لا فكاك منه إلا بالموت .
“لو تطلبي عربون
قفطان غرزاته هذب العيون
و زرایره دقات قلب حنون“
ليبيا .. الوطن الأم ، معنى الوجود ، تستحق كل هذا و أكثر فالحضن الدافئ الذي ضمنا سنين العمر ، و الصدر الحنون الذي دفنّا فيه رؤسنا وأغدق علينا من دفق مشاعره ، لجدير بأن نفديه باعمارنا و نهبه أرواحنا و نروي ثراه بعرقنا ودمائنا .
عندما سطر شاعر الأحاسيس المرهفة “أحمد الحريري” هذه الأبيات الوطنية الخالصة كان ينطق بإسمنا جميعا ، و كان ينقل بحرفية يجيدها كل الأحاسيس و المشاعر الفياضة التي نحملها لهذا الوطن و نكنها لثراه الطاهر .
لم يكن “أحمد الحريري” يبث لواعج قلبه بل كان يصوغ ترنيمة عشق تختلج في صدورنا جميعا لم يكن وحده العاشق ، بل كان يقود ملايين العشاق في تظاهرة لإعلان وثيقة الانتماء .
كان صيغة عهد الوفاء و الإخلاص الذي تواعدنا عليه و حررنا بنوده و وقعنا عليه بمداد من قلوبنا .
ليبيا .. تلك البقعة الطاهرة و ذاك الاسم البديع التي ترابها من تراب الجنة و أرضها منبث الزهر و الحناء لا يضاهيها شيء و لا تدانيها أرض و لا تفوقها بلاد مهما سطع بريقها ، أو علا نجمها ، أو ارتفعت اسهمها ، فكل البلاد تصغر أمام راياتها ، و كل الأماكن تسقط عندما يذكر اسمها المنقوش على شغاف القلوب ، المحفوظ في بؤبؤ العين القابع في خلجات الصدور .
وهذا هوا الفارق بيننا وبينهم ، بين من يعشق الوطن ويرفع راياته عالياً وبين من يحقد عليه ويهبط بالمعاول يهدم أركانه ..
نحن ، عشاق الوطن نفخر أن
الذاكرة لا تحفظ إلا اسمها والقلب لا يهفو إلا إليها ، و العين لا تسجل إلا مناظرها و جمال بنيانها و عظمة تاريخها .
نحن ، من يردد دائماً أنها
كل العمر ، و هي كل الرجاء ، و لها وحدها كل الأماني الطيبة ، و من أجلها تنظم الأشعار ، و تصاغ الألحان ، و تصدح الأصوات ، و تلهج الألسن بالدعاء لله الذي يحبها بأن يحفظها لنا ، و يديم عزتها و ينصر عشاقها ويمنحنا القوة و العزيمة لإيفائها حقها ، وفاء و إخلاصاً و صدقاً في الانتماء الذي نتشرف به .
هذا نحن ، فمن أنتم ؟!














