ضجيج

ضجيج

أسماء القرقني

اخترت عمداً مكاناً مزدحماً بعد ان بعت (بيتهُ) ،آخر شيء يربطني به ويذكرني بأيامي البائسة في كنفه ، وقفت في شرفة شقتي الجديدة المتواضعة اراقب الشارع المكتظ بالناس والمطاعم والمقاهي واصوات لهو الأطفال وشقاوتهم ،رددت مواسياً نفسي: “الضجيج  الذي نخر جمجمتي  طوال حياة ابي وتضاعف بعد موته  ، حتماً سيخرسه هذا الصخب“.

خرجت أبحث عن عمل قبل ان تنفذ نقودي  ،لا ادري لِمَ تعاندني الحياة ويكرهني ارباب العمل !؟،  لا ابقى في مهنة سوى ايام معدودة يكون بعدها مصيري الطرد ،قال لي آخر من عملت معه :

”  انت عنيد وحاد الطباع  و لا تلتزم  بما يطلب منك”  اشعر بالحنق ، وكأنهم يكررون كلام ابي .

تقابلت اثناء خروجي مع الرجل الساكن في الشقة المقابلة لشقتي ، تسمرت في مكاني كتمثال من حجر،  يا الله كم  تشبه هيئته هيئة ابي ،نموذج للرجل التقليدي الصارم ، يضع (شنة )حمراء على رأسه ويلبس (فرملة )بنية اللون كالتي يحرص ابي على ارتداءها في المناسبات وايام الجمعة،  تلاقت نظراتنا للحظة ، خلت ان نظرته كانت مزيجاً من العتاب والشفقة .، القيت عليه السلام  بسرعة وذهبت لحال سبيلي ،لكن نظرته  ظلت عالقة في ذهني لاتبرحه .

 اصبح جاري هو شغلي الشاغل ،اراقبه يومياً من العين السحرية قبل خروجي للعمل ،لا اخرج إلا بعد مغادرته ، ولا أنام قبل أن أراه عند عودته رغم  حاجتي  الملحة للراحة والنوم بعد يوم عمل شاق .

لا افهم لِم َ ارهق نفسي بمراقبة شخص يشبهه ؟   تمر مواقفه أمامي بسرعة كفيلم  جاهز  للعرض ، غضب،  نصائح ، تقريع   ، توبيخ …وضرب، ……..للأمانة … علي ان اعترف انه لم يضربني سوى مرتين ، المرة الأولى عندما ضربت ابن جيراننا بحجر شج رأسه ، والثانية عندما صممت أن  اترك دراستي .  

قطع حديثي المكرر مع نفسي صوت جاري  وهو يفتح بابه ، ركضت  بسرعة لأحييه قبل ان يدخل  ،صارت عادة يومية لا انفك عن مداومتها بكل عناية ، اختلجت عيني عندما رمقني بنظراته الغريبة، ارتجفت عندما صفق الباب قبل ان يعطيني فرصة لاتبادل معه كلمة واحدة .

 

عدت متأخراً ذلك اليوم ،اجرجر خطواتي بصعوبة  بعد عمل مضن انهك بنيتي الضعيفة ، فوجئت به واقفاً امام شقته يحدق بي وشيئاً يلمع في عينيه ،لم اتأكد منه باديء الأمر ،تيقنت  عندما دنوت انها طبقة  سميكة من الدموع  تصحبها نظرة حانية  تأسر القلب،

( يا الله  كم يشبهه يوم سقوطي المريع من سطح بيتنا ، كانت المرة الوحيدة التي رأيت فيها دموع ابي)

تمنيت ان  يمكث معي  قليلا  ، ان يمنحني فرصة للحديث ،   لكنه كان ككل مرة ،متحفظاً جداً،  لم اسمع منه سوى تحية بصوت يشبه الهمس  و لم المح   سوى نظرات تثير الحيرة، وقفت دقائق امام شقته احاول التخلص من شعور الأسى والوحدة الذي يراودني كلما  أوصد بابه في وجهي.

مر شهران -على هذا الحال -اشتد بهما فضولي ولهفتي ،ذهبت الى بواب العمارة لاسأل عن الرجل ، من هو ؟، ، هل يسكن وحده ام مع عائلته؟ ماذا وراء   صمته ونظراته الحانية واطواره الغريبة

شعرت برجفة هائلة عندما قال  لي البواب في دهشة:

الشقة المقابلة لشقتك خالية لم يسكنها احد منذ زمن .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :