تقرير : بية فتحي
الحرب والإدمان وتدهور الصحة النفسية ، والظروف الاقتصادية والسحر الأسود تتجلى في قصص انتحار مأساوية.
الانتحار هو أحد أكثر المواضيع إثارة للقلق والاهتمام في العصر الحديث ، على الرغم من التقدم الكبير في مجال الرعاية الصحية والخدمات النفسية، إلا أن معدلات الانتحار لا تزال مرتفعة جدًا في العديد من البلدان حول العالم.
فقد سجلت منظمة الصحة العالمية أكثر من 900,000 حالة انتحار حول العالم، مما يجعله أحد أكبر أسباب الوفاة في العالم ، وهناك العديد من العوامل التي تساهم في ارتفاع معدلات الانتحار، من الاضطرابات النفسية والاجتماعية والاقتصادية إلى العوامل الثقافية والعائلية.
فسانيا تسلط الضوء على هذه الظاهرة المؤلمة والتي باتت تشكل مشكلة خطيرة.
في بيوت عائلات منكوبة تُروى قصص انتحار تكشف عن المعاناة العميقة التي يواجهها الشباب.
الانتحار: صراع النفس أم سيطرة القوى الخفية؟
في عام 2014، انتحر عيسى، وهو أب ميسور الحال لطفلين، في مدينة الزاوية. في الأيام الأخيرة من حياته، لاحظت زوجته تغيرًا ملحوظًا في سلوكه وتلفظه بألفاظ غريبة بعد جلسة للحجامة التي قرر البدء فيها.
تقول الزوجة إنه كان يتحدث فقط عن رؤيته للكلاب السوداء التي تطارده. وفي يوم 17 نوفمبر، تشاجر عيسى مع زوجته وأخذ السلاح معه إلى الحمام، محاولًا أخذ ابنه الصغير معه، لولا تدخل العائلة وإنقاذ الطفل.
بعد أيام، صعد عيسى إلى سطح المنزل وأغلق الباب بإحكام.
وأكدت العائلة بأكملها سماع صوت إطلاق النار. ولكن الغريب أنه بمجرد إطلاق النار، اندلعت النيران وأحرقت عيسى حتى الموت، على الرغم من عدم وجود أي مواد قابلة للاشتعال.
وهناك أقاويل من بعض أفراد العائلة بأن الضحية كان مسحورًا ، وانتهت قصة عيسى تاركة لأهله الكثير من التفاصيل المؤلمة.
“تجاهل الأسرة سماع مشاكل الأبناء“
أما في قصر بن غشير بجنوب طرابلس، عثرت عائلة على ابنهم البالغ من العمر 14 عاماً قد انتحر بشنق نفسه في غرفة المزرعة بالقرب من منزلهم ، وفقًا لتصريحات والد الضحية، فقد تعرض ابنه للتحرش والتهديد بالاختطاف من قبل مجموعة من الشباب المقيمين بالقرب من مدرسته.
وأوضح الوالد أن ابنه لم يجد من يستمع إليه أو يقدم له الحماية اللازمة ، فقد كان الوالد كثير السفر بسبب عمله كسائق شاحنة، مما تسبب في عدم تواجده مع أسرته سوى لبضعة أيام.
وأضاف أن ابنه لم يخبر الأسرة بما كان يعاني منه من تنمر تفاقم حتى وصل إلى التحرش الجنسي.
وفي الآونة الأخيرة، لوحظ أن الطفل يتغيب عن المدرسة رغم أنه كان يخرج كل صباح كالمعتاد. وأفادت إدارة المدرسة أنها أبلغت الوالد بتغيب ابنه لعدة أيام دون اتخاذ أي إجراء للتحقيق في الأمر أو توفير الحماية اللازمة له.
وختم الوالد تصريحه بقوله: “لم يجد ابني من يستمع إليه ويدعمه ويقدم له الحماية، وهذا ما دفعه للأسف إلى إنهاء حياته“.
“الضغوط النفسية والاجتماعية “
وفي لفتة صادمة، تحدثت شابة ليبية بالغة من العمر 25 عامًا، عن محاولة انتحارها بعد أسبوعين فقط من إتمام زواجها ، والتي فضلت عدم الكشف عن اسمها، قائلة إنها لا تعاني من أي اضطرابات نفسية ، لكنها وجدت نفسها تتوجه إلى شجرة الزيتون الموجودة في ساحة منزلها دون وعي كامل، وبحكمة من الله تعرض عرف الشجرة لإصابة جعلتها تسقط على الأرض .
قالت الفتاة “لولا فضل الله لكنت من قائمة المنتحرين في أسعد أيام حياتي”، مشيرة إلى أنها لاتعلم عن الأسباب الكامنة وراء هذه المحاولة المؤسفة.
ورجحت أنه من الممكن أن يكون السبب من الضغوط النفسية والاجتماعية التي قد تواجهها الفتيات في بداية حياتهن الزوجية، والتي قد تؤدي في بعض الحالات إلى سلوكيات انتحارية مؤسفة. ودعت إلى ضرورة توفير الدعم النفسي والاجتماعي للمتزوجات حديثًا لتجنب وقوع مثل هذه الحوادث المأساوية.
أكد أحد أساتذة الثانوية عن انتحار التلميذ “أ.ح”، طالب في السنة الثالثة بسبب عدم توفقه في أحد امتحانات الشهادة ، زاعما أن الضغط والإحباط الشديدين الناجمين عن عدم النجاح في الامتحان دفعا الطالب إلى هذه الخطوة المأساوية.
” الحرب والإدمان “
تقول “ف ع.”، وهي شقيقة أحد ضحايا الانتحار، إن أخاها التحق بالقتال في ليبيا عام 2011، وأصيب هناك ، وبعد انتهاء الحرب، وجد نفسه مدمنًا على أنواع عديدة من المواد المخدرة بسبب محاولاته السيطرة على آلام الإصابة ، وبسبب فقدانه لأصدقائه في المعارك، انطوى على نفسه تدريجيًا إلى أن وجدته العائلة مشنوقًا في مخزن المنزل.
وفي قصة أخرى، تروي “غ ح.” كيف استيقظت عائلتها صباح عيد الفطر على خبر انتحار ابنتها الصغرى، التي كانت تحضر لاحتفالات العيد بنشاط وحيوية، لتفاجأ العائلة بعد ذلك برؤية جثتها معلقة في إحدى غرف المنزل.
“خطر الإنترنت على الأطفال “
وفقًا لما أفادت به زميلات الطالبة “ز.م” في الصف السادس، لاحظن تغير تصرفاتها بعد اعتيادها على ممارسة لعبة معينة منتشرة على الهواتف الجوالة، يقال إنها تستحضر الأرواح الشيطانية مما دفعها في النهاية إلى الانتحار.
وبحسب رد مركز الخبرة القضائية، فقد نفى وجود أي علاقة بين هذه الألعاب الإلكترونية المنتشرة على الهواتف الجوالة وحالات الانتحار في هذه الحالة.
” الظروف الاقتصادية “
يقول “م ب” إنه فجع في عام 2020 من انتحار صديقه على الرغم من أنه لا يعاني من أية مشكلات صحية أو نفسية ، إلاّ أنه لم يكن قادرًا على تحمل مصاريف أسرته المكونة من 8 أفراد ، بعدما انسدّت في وجهه كل السبل، قرر الاستسلام والانتحار شنقًا، تاركًا وراءه أسرته وأصدقاءه.
” التفكك الأسري وتأثيره “.
بالإضافة إلى ذلك، تقول “ح، و” في الأيام القليلة الماضية لجأ طفل من عائلتها، إلى الانتحار بسبب التشتت الأسري الذي تعرض له بعد طلاق والديه. فقد كان ينتقل بينهما من حين لآخر، وفي إحدى المرات، فقد والده تجارته، مما دفعه إلى الرحيل عن بلدته المقيم بها، وانتهى به المطاف جراء هذا التفكك.
” ومن الحب ماقتل “
وفي حادثة أخرى ، انتحر “ن م”، بسبب الحالة العاطفية حيث أجبرته عائلته على طلاق زوجته التي كان متعلقًا بها حد الموت، وخسر حضانة طفلتيه الرضيعتين لصالح الأم، بحسب رواية أحد أقاربه.
ولازال هناك العديد من قصص الانتحار المعروفة، ولا يسعنا ذكر حتى نصفها ، وما خفي عنا كان أعظم.
الانتحار والسحار “.
كتب الصحفي عبد الرزاق الداهش خلال منشور بصفحته الرسمية بموقع الفيسبوك ،
“كلام كثير يتردد عن انتشار لحالات الانتحار بين الشباب، في غير مدينة ليبية.
ولعل الجواب الأكثر تداولا عن سبب حالات الانتحار، هو انتشار السحر.
ولهذا السبب تسجل القضية في كل مرة ضد مجهول أو بالأحرى ضد ساحر.
فعادة ما تلجأ الشعوب البدائية إلى الميتافيزيقا، هربا من أسئلتها الحائرة.
ليس للانتحار وطن، وليس له دين، ويحدث عند شعوب الشعوذة، والدجل، وعند شعوب المعرفة والعلم.
وحسب أرقام الصحة العالمية فإن عالمنا يفقد أكثر من مليون إلا ربع المليون بسبب حالات الانتحار.
ولعل الأهم أنه ما يقرب من ثمانين بالمئة من حالات الانتحار في العالم تعود لثمانية أمراض نفسية، سواء في السويد أو ليبيا.
ونستطيع أن نقول إن تسعين بالمئة منها هي نتاج حالات الاكتئاب الحادة.
أما القول بأن مشعوذا دفع شخصا آخر لقتل نفسه بتعويذة فهذه لا وجود لها إلا في المخيلة البدائية.
ولعل المشكلة هي تجنب الناس الذهاب إلى طبيب الصحة النفسية على خلفية وصمة العار، ومقبرة سيدي منيدر، ولا مستشفى قرقارش.
وتبعا لذلك فحتى مشافي الأمراض النفسية يرونها مجرّد مأوى للمختلين عقليا.
في عالم اليوم الطبيب النفسي مثل طبيب القلب، والباطنة، والأنف والحنجرة.
في قاموس العالم هناك مرض الاكتئاب، والفصام، والوسواس القهري، والهستيريا، والهلوسة، ولا شيء اسمه جنون، فهو اضطرابات نفسية ليس إلا.
أما في قاموسنا، فهناك ضربة جن، وضربة عين، ومكتوب له سحر، ومفردات أخرى لا وجود لها في أي كلية طب.
المعرفة استثمار مهم لجودة الحياة، وليس مجرد ثقافة عامة وفقط.
أما الجهل فهو القاتل المجهول في غير مرة، وبغير طريقة، وفي غير مكان.
وتستدعي الذاكرة شخصا طافوا به من مشعوذ إلى مشعوذ، وحفظ ربع القرآن، وأنهى حياته بثلاث لترات بنزين وقداحة، بسبب الاكتئاب وعنصر اليأس والتجرؤ.”
“العالم السفلي بين الحقيقة والخيال “.
وهناك أقاويل متداولة بين عامة الناس وخاصة بالتواصل الاجتماعي بخصوص ظهور ممارسات غريبة مثل تعليق الدمى على الأشجار بكتابات طلاسم تدعو للانتحار، مشيرة إلى أن هناك أبعادًا خفية ومقلقة لهذه الظاهرة.
وتبقى قصص العالم السفلي والسحر الأسود تثير الكثير من التساؤلات والجدل بين الناس ، فمن ناحية، هناك الكثير من الادعاءات والشائعات التي تنتشر بين الناس حول هذا الموضوع ومن ناحية أخرى، توجد بعض الحوادث والوقائع لها صلة بهذا العالم السفلي والسحر الأسود.
أسباب الانتحار:
يشير الخبراء النفسيون إلى أن الضغوط الاجتماعية والنفسية التي يعاني منها بعض الأفراد قد تكون أحد الأسباب الرئيسية للجوء إلى الانتحار ، وفي بعض الحالات، يسعى الأبناء إلى الضغط على أسرهم والابتزاز للحصول على مزايا مادية أو اجتماعية، وهذه الحالة أكثر انتشارًا لدى الأطفال من الأسر المرفهة ، وقد أكدت بعض الدراسات على أن هناك ظاهرة لدى بعض الشباب بمحاولة تقليد أصدقائهم الذين حاولوا الانتحار للحصول على الاهتمام والمكانة الاجتماعية، وهذه الحالة تعرف باسم “العدوى الاجتماعية” ، بالإضافة إلى انتشار الاكتئاب وضعف الرعاية الصحية وعدم القدرة على الحصول على العلاج الكافي للأفراد المصابين بالاكتئاب قد يؤدي إلى تفاقم حالتهم والجوء إلى الانتحار.
ويرى أساتذة التوجيه النفسي أن انتشار ظاهرة الانتحار قد ترجع إلى الوضع الاقتصادي الصعب في ليبيا، مما أدى إلى انشغال الآباء بتوفير لقمة العيش على حساب تربية أبنائهم وتفكك اللحمة الأسرية.
بشكل عام، يشير التحليل النفسي للقضية إلى أن هناك عوامل اجتماعية ونفسية متعددة قد تكون وراء ظاهرة الانتحار، والتي تتطلب تدخلاً متعدد الجوانب لمعالجتها.
مع تصاعد حالات الانتحار في ليبيا، لا بد من معالجة هذه الظاهرة المأساوية بشكل شامل وعاجل ، وينبغي على المجتمع أن يُولي اهتمامًا أكبر بهذه القضية الخطيرة، وأن يعمل على رفع الوعي بأهمية الصحة النفسية وتوفير الخدمات الإرشادية والعلاجية المتخصصة ، كما يتوجب على الأسر لعب دور رئيسي في تقديم الدعم العاطفي والنفسي لأفرادها والاستماع إلى مخاوفهم وهمومهم .
فمن خلال تكاثف المجتمع بكافة مؤسساته ورفع مستوى الوعي العام، يمكن الحد من هذه الظاهرة الصادمة والوقاية من المزيد من الحالات المأساوية.
وفي الختام ليس هناك أي تبرير للجوء إلى الانتحار، ولكن إذا لم يتم معالجة أسبابه الجذرية بعناية وشمولية، فسوف تستمر هذه الحالات المأساوية في الارتفاع.
راي الدين في الانتحار
أوضح الشيخ حسن الشريف أن الانتحار جريمة وخطيئة يعاقب عليها الإسلام. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الفعل كما أكدت نصوص قرآنية على حرمته، إلا في بعض الحالات الاستثنائية كالمرض الشديد أو السحر و المس الذي يفقد الإنسان إرادته وتصرفاته. وقد دعا الشيخ إلى عدم التسرع في الحكم على هؤلاء المصابين، وأن الحكم عليهم يكون إلى الله سبحانه وتعالى.