من المعلوم أن الدين من العوامل المؤثرة في حركة التاريخ الإنساني ، فبالكاد يخلوا مجتمعا ًما من هذا العامل ، بل إن الحاجة الإنسانية للدين هي ما دفعت بعض المجتمعات إلى تبني مجموعة من المخرجات البشرية وجعلها ديناً يُتَعَبدُ به كما هي الحالة البوذية ، وهذه الحاجة تعكس نوعاً ما فطرية الدين في الذات الإنسانية ، والناظر في طبيعة العلاقة بين المؤمنين ودينهم يلاحظ حالة من التباين ، فليس كل المؤمنين على وتيرة واحدة في علاقتهم بدينهم ، فهناك المتمسكون به إلى درجة الرهبنة ، وهناك المعتدلون الذين وازنوا بين الدين والدنيا ، وهناك المفرط الذي لا تظهر علاقته بدينه إلا في المناسبات العامة أو في لحظات من الضيق . وظاهرة التطرف في أساسها هي نتاج لهذا التباين في العلاقة مع توافر بعض الظروف الذاتية ( الجهل ) والموضوعية ( البنية غير السليمة للدولة والسياسات السلبية للحكومة ) ، وحال الحديث عن هذه الظاهرة فالأضواء غالبا ما تسلط على الواقع الإسلامي بحكم قوة التأثير الديني فيه ؛ وهذا بخلاف ما عليه الحال في واقع عديد المجتمعات وعلى رأسها المجتمعات المسيحية التي عزلت أحكام كتابها المقدس في إطار كنائسها وبيعها وصوامعها ، وجعلت من الإلتزام بها واقعة في إطار الحرية الشخصية أخذاً ورداً ، ولهذه الحالة أسبابها التاريخية ، وأمام هذا الضعف للكتاب المقدس في التأثير على المجتمعات المسيحية تنظيما وتوجيها تلاشت ملامح التعصب الديني ، وهذا مالا يتوافق والحالة الإسلامية ، فالدين في المجتمعات المسلمة لا تزال له القدرة على التنظيم والتوجيه بغض النظر عن مدى الإنحلال الذي نشهده وذلك تصديقاً لقول الله تعالى { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } صدق الله العظيم (1) ، ولعل حالة التمازج بين عدم الحكمة في توظيف عملية الإصلاح الديني ومابين حالات المخالفة الشرعية هي من أسباب الصراع الحالي ، وكما نعلم أن لكل قرن من الزمان مجدد للدين مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) (2) ؛ وهذه المسألة فتحة أمام الكثيرين أبواب الوصايا على الدين في غياب الأسس ، فالمعرفة بأحكام الدين شرط أساسي للتحدث عن الله ، كما أنه من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ، إذ بها ( الحكمة ) تُقَرُ السياسة الشرعية الكفيلة بالمحافظة على المقاصد الكلية الخمس للشريعة الإسلامية ممثلةً في ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال ) ، والمطلع على سياسة هذه الجماعات في التعامل مع المخالفات الشرعية لا يلاحظ إلا أسلوباً مشوباً بالمخالفات الشرعية وللأسف الى الحد الذي تنعدم فيه الحياة ، والله يقول { أدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } (3) صدق الله العظيم ، ونحن لسنا في معرض الإثبات على تصرفات هذه الجماعات بمختلف أشكالها ، فالواقع التاريخي الحديث والمعاصر شاهد على أفعالها ، وما يهمنا في ذلك هو معرفة الطبيعة السيكولوجية لهذه الجماعات ، وقبل الحديث عن هذا يلزمنا الأمر التعريج على مفهوم التطرف ، فقد قصد به “تجاوز الحد والبعد عن الوسطية والاعتدال ، والشخصية المتطرفة شخصية مريضة نفسياً ، ومن هنا غالبا ما تبدأ مشكلتنا مع التطرف ، إذ العقائد والأفكار في الغالب لا تعدوا كونها قنوات تفوح منها رائحة المرض النفسي ، وأدوات يوظفها المتطرف بما يخدم أغراضه الإجرامية أوبما يساعد على تفاعل معادلة النمو السريع لشخصيتة المتطرفة ،
. والحالة المرضية للنفس كفيلة لوحدها بإنشاء شخصية متطرفة ولكن مالم تقترن بتفاعلها مع الجانب الفكري لا نستطيع أن نقول أن هذه الشخصية ذات تطرف ايديولوجي ديني أو عرقي أو سياسي …. إلخ ، بهذا يبقى التطرف في خلو الترابط الفكري تطرف غير مؤدلج ، يسهل معه العلاج ، وهذا بخلاف الحال مع الشخصية ذات التطرف الأيديولوجي ، ومن تعامل مع هكذا حالات يلاحظ ذلك ، فالمتطرف المؤدلج يخفي مرضه النفسي خلف قناعاته ، بل حتى ولو حاولنا علاج هذه الحالة المستعصية ابتداءً من عقائدها الفكرية سنجد تمنعاً في ذلك إما برفض الحوار من الأساس أو عدم الإقتناع التام بالحجج المقابلة ، فالعقلية المتطرفة أيديولوجياً عقلية منغلقة “ترسل ولا تستقبل” ، وهذا ما عبر عنه الكاتب الأمريكي اريك هوفر( 1902م ـ 1983م ) في كتابه ( المؤمن الصادق – العقائد وطبيعة الحركات الجماهيرية ) , والذي نشر في خمسينيات القرن الماضي , ثم ترجمه إلى العربية الكاتب غازي القصيبي ونشره في العام 2010م , بإشارته “بأن المتطرف يدعي أنه مالك للحقيقة المطلقة ولا يقبل من يقول بأن الحقيقة نسبية , بل يسعى إلى عزله أو ابلسته قبل نفيه ، وهو أحادي التفكير لا يقبل بالتعددية الفكرية , مقتنع تماماً بأن القضية التي يؤمن مقدسة , والبرهان عليها إشراق من داخله , وهنا تختفي قيمة الحجة والمنطق والمعرفة , ولا يعني تعصب المتطرف لأفكاره أنه صاحب مبدأ , فمن الممكن أن نراه منتقلاً من مذهباً إيديولوجي إلى آخر, وفي كل مرة يضفي القداسة على مذهبه وبنفس الدرجة من التطرف” ، وهذا يؤكد ما قلناه سلفاً بأن التطرف في غالبه يرتبط بالنفس قبل العقل ، وبهذا يمكننا القول بأن التطرف ليس حكراً على طائفة بعينها ، فمتى توافرت ظروف الإرهاب : أ / الواقعية ( البيئة السلبية ) 2 / والذاتية ( الخصائص الجينية المساعدة ) توافر الإرهاب ، ولحلحلة هكذا إشكال يلزمنا النظر في أسبابه ، وبالنظر الدقيق في الحالة يتضح أن هناك إشكالية أساسية تعاني منها أغلب الدول المصابة بداء التطرف ألا وهي الحالة السياسية السيئة الناجمة عن الإستبداد والتخلف السياسي ، وهنا يلزم التركيز على المفارقة ما بين الإستبداد والتخلف السياسي ، فليس كل مستبد متخلف ولكن كل متخلف مستبد ، وكلا الحالتين أسباب رئيسية لصناعة قنابل التطرف ، فأينما وجد اللإستبداد والتخلف السياسيين وجد الفقر والجهل والظلم ، وهذه العوامل كفيلة بالتأثير على نفسية الإنسان وتحويلها إلى كيان مريض ، ومع استمرارها ( العوامل ) وفي ظل توافر الإستعداد الجيني للإنحراف تتشكل الشخصية الإنسانية المتطرفة ، ومع حضور الحاضنة المادية والفكرية للإرهاب يبرز التطرف على أرض الواقع .
في ليبيا اليوم عوامل التطرف باتت تتجلى وبشكل واضح تماما ولا لبس فيه خاصةً بعد الأحداث السياسية الجارفة في فبراير من العام 2011م ، والإحصائيات المحلية والدولية تؤكد ذلك ، وهو أمر متوقع في ظل غياب السلطات الراشدة ، وللأسف فقد خيبت المؤسسات المنتخبة هذا الشعب في طموحه ، وأثرت بسياساتها على الواقع ، وبات ماحدث في إطار الأضحوكة على الشعب من أجل نزوات مفقدة للوطنية ، فسرقة المال العام بشكله المهول واقحام المجتمع الليبي في حروب أهلية أثر على حياة المواطن بقدر مس أبسط مقومات الحياة ، وهذا الواقع المختلق من دواعش السلطة والمال كفيل بأن يكون حاضنة للإرهاب بجميع أصنافه ، ولا يستطيع أحد أن ينكر مساوئ هذه السياسات ، فبشاعتها كرمت مدينة سبها بأن تكون الأولى عالمياً في مستوى الإجرام . إن الواقع الليبي واقع متميز باحتوائه لجميع صور الإرهاب “السياسي والاجتماعي والديني” ، ولم يعد من بد إلا إيجاد حل بعيد عن ساسة هذا الواقع ، ولعل حراك أبناء المؤسسة العسكرية هو البديل الأمثل إزاء فشل ثوار التغيير في تثبيت استقرار البلد وتنميتها ، وما هذا الحراك برأيي إلا رداً على تطرف بعض التيارات الرافضة للمصالحة الوطنية بسبب تخوفها على مكاسبها وطموحها السياسي ، وقيمة العدالة ترفض استئثار جماعة من المجتمع بالسلطة والمال على حساب الجماعات الوطنية الأخرى ، وتحت أي ذريعة ، وفي ليبيا وجدنا أن الثورة سند لتملك الدولة ، وهذا مالا يجوز ، والثائر الحقيقي لا نتصور أن يهدم قيم الباطل ويعيد بنائها من جديد ، ولعل لهذه الحالة أسبابها ، فالعقود المنصرمة من الجمود السياسي الداخلي بالإضافة الى حالة الانغلاق شبه الكامل هو ما أثر على ثقافة المجتمع السياسية ، وإزاء هكذا واقع وهكذا ظروف لا نتصور أن يخلف أحداث فبراير سريان منتظم ومضطرد وبصورة مستقرة للعملية السياسية ، فالدولة بلا مؤسسات قيادية ، لهذا أملنا أن يكون للمؤسسات التقليدية ( القبائل ) دور سياسي مرحلي ، والمعالجة الأمنية للحالة الليبية على أهميتها في ظل الظروف الحالية إلا أنها غير كافية لحلحلة اشكالات الواقع وعلى رأسها الإرهاب الذي يتطلب ضرورة اعمال مسارين متوازيين ، الأول : يتجسد في ضرورة ايجاد مصالحة وطنية حقيقية تعتمد على المكاشفة والمصارحة والعدالة الانتقالية والعفو ، ولا يقف مسار هذا الحل عند هذا الحد ، بل يجب على الدولة أن تتخذ خطوات ايجابية في إطار الجانب الخدمي سواء بتأمين الدولة وبناء مؤسساتها وتقديم الخدمات للمواطنين بشكلها الأمثل ؛ خاصةً الأساسية منها ، أما المسار الثاني : فيتجسد في دعم المنظومة التعليمية وضبطها ؛ خاصة فيما يتعلق بالجانب الديني ، فنحن بأحوج ما يكون إلى تصحيح الكثير من المفاهيم هذا إن وجدت ، وليس بالضرورة أن يكون لتحقق المسار الأول نتائج ايجابية خاصة على ظاهرة التطرف والتطرف الديني ، فبعض الدول المصدرة للإرهاب يعيش مواطنوها حياة مرفهة مالياً وفي ظل نظم ديمقراطية يقوى فيها الحق بفضل العدالة وسلطان القانون ، مع ذلك نراها بيئة ناشئة للإرهاب ، والسبب في ذلك هي تلك المفاهيم الخاطئة التي نشأ عليها المواطنون ، حينها وكما كانت البيئة بظروفها السيئة سبباً في تكوين الشخصية المتطرفة ، فإن المفاهيم الخاطئة هي أيضا كفيلة حال تحولها إلى عقائد بتكوين الشخصية المتطرفة ، لهذا فالتطرف هو انعكاس في غالبه لحالة توتر نفسي في المستوى المرضي أو تعصب أعمى لمفاهيم خاطئة بالقدر الذي يكفل لهذه الشخصية القدرة على ترجمة تعصبها ماديا على أرض الواقع في صورة جرائم لا تعكس حقيقة الفطرة الإنسانية الميالة للسلم والسلام .
إن أهم ما يميز الشخصية المتطرفة هو طبيعة تعاملها مع الأخطاء ، فعلى سبيل المثال ونحن في إطار الحديث عن التطرف الديني نجد المتطرف هنا لا يعبأ بالظروف الزمانية والمكانية في إصدار الفتوى ، فيحصر آرائه في إطار التحريم والفرض ، هذا إن سلمنا بأهليته في إصدارها ، مما يستتبع ذلك المشقة على من صدر الحكم في حقه ، وهكذا أمر فيه مخالفة صريحة لما ذهب إليه الكثير من الفقهاء إن لم يكن إجماعهم في أن الفتوى الدينية تقع في إطارٍ تقديري بين الجائز والمستحب والمندوب والمكروه والمحرم ، كلٌ حسب ظروفه ، فالفتوى تختلف بحسب الزمان والمكان ، فما هو محرم بالأساس قد يكون جائزاً استناداً على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات ، كما أن السياسة الشرعية تعتمد على التدرج في الأحكام ، وهذا الأسلوب فيه حكمة عظيمة في تأليف القلوب على الحق ، فالخمر على سبيل المثال لم يكن محرما في بداية الإســلام حتى جـاء قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمر كبير ومنافع للناس } [ البقرة 219 ] ثم جاء قوله تعالى في حق من أراد أن ينال منافعها { يأيها الذين ءامنوا لا تقربوا الصلوات وأنتم سكارى } [ النساء 43 ] ، ثم جاء قوله تعالى في حق من أراد شربها في غير أوقات الصلاة { يأيها الذين ءامنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } [ المائدة 90 ] ، فمسألة التدرج في التعاطي مع المخالفات الشرعية مسألة هامة جدا ، والهدف منها تحقق مصلحتين ، مصلحة ازالة المخالفة ومصلحة الحفاظ على المخالف ، أما أن ننهي المخالفة بإنهاء المخالف فهو محل خسارة كبيرة للدين والوطن ، كما أن إشكالية
الشخصية المتطرفة في تعاملها مع المخالفات الشرعية تتجسد في استعانتها بنظرية القوة الذاتية في مناصرة الحق كما تدعي ، وهذا المسلك خطير على وحدة المجتمعات واستقرارها لما فيه من خروج على سلطان الحاكم ، وتستمر سلسلة إشكالات الشخصية المتطرفة والمتطرفة دينياً بالتحديد في إطار تعاملاتها مع المخالفات الشرعية في أن تعصبها قد يكون في مواطن تحتمل الاختلاف ، كمن يرى لزوم الوضوء من لحم الجزور والعكس ، ومن يرى بأحقية خطبة الجمعة على تحية المسجد والعكس ، ومن يرى بجواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته والعكس ، ولعل من أبرز القضايا الحية في الخلاف هي مسألة وجوب الخلافة كنظام سياسي من عدمها ، ونحن اليوم نعاني من تبعات هذا الخلاف (الخلافة) في طريق بناء الدولة المدنية الحديثة ، فقد واجهنا حملة شعواء في ذلك من قبل تيارات الاسلام السياسي التي عرقلت عملية البناء خصوصاً ما تعلق بقضية مشاركة العامة في انتخابات السلطتين التشريعية والرئاسية وكذلك قضية البناء المؤسسي للجيش والشرطة ، فالتعصب لرأيٍ صائب ٍ لا يمنح صاحبه الحق في التسيد به وفرضه ، فرب المقابل أصوب .
أخيراً : على الرغم من كل ما رأيناه ونراه من تشدد يظل التعامل مع هكذا حالات في إطار الاحترام لحرية الرأي واجب مالم يُتَجَاوَزُ حد الحرية إلى حق الغير ، ويظل الحوار ضروريٌ وهام مع جميع الأطراف من أجل الوصول إلى توافقات تعالج الفجوة المدمرة التي عانينا ونعاني منها ، فالحوار هو السيل الأمثل نحو السلام والاستقرار ، حفظ الله ليبيا وأهلها
علي ضوء الشريف