فسانيا :: سلمى عمر
بدأت بعض مدارس مدينة سبها عاصمة الجنوب الليبيّ ، كما يحلو للبعض تسميتها في استقبال جزء من طلابها ، بعد أن استلم التعليم عدد 40 مدرسة تمت صيانتها بدعم من المنظمات الدولية وشركة ليبيانا للاتصالات ولازال الجزء الآخر ينتظر استكمال صيانته .
حدثٌ استثنائي رغم سقف السيولة المتدني
أغلب الأمهات يعتبرن بداية العام الدراسي حدثا استثنائيا في حياة أطفالهن خاصة الملتحقين بالمدرسة لأول مرة ، ترتسم البهجة على وجوه المتسوقات منهن رغم الظروف المعيشية الصعبة التي عكرها غياب السيولة فسقف السحب من مصارف أغلب المدن الليبية بالجنوب لا يتعدى 300 دينار ليبيّ ، إلا مصارف سبها التي تراوح فيها سقف السحب ما بين 500 إلى 750 دينار ليبيّ .
أقساط متراكمة منذ عامين وأمتعة محجوزة
لكن عائشة الشابة الثلاثينية بطلة قصتنا تكفكف دموعها فوحيدها فراس الذي أكمل سنواته السبع ، وبدأ يطالبها بالذهاب للمدرسة ، غير قادر على الذهاب رفقة أقرانه ، إلا أنه يتحدث معظم الوقت معها عن دفاتر القراءة ، الكتب ، الكراسات والمدرسة القريبة من بيتهم والواقعة في حي القرضة بمدينة سبها ، صارت بعيدة جدا بعد أن طردهم صاحب الشقة التي استأجرتها قبل سنوات حاجزاً كافة أمتعتها ، بسبب عجزها عن دفع أقساط الإيجار المتراكم منذ عامين .
الليبيون أصبحوا قساة القلوب
من تحت دموعها السخية تتحدث عائشة : أنا مستعدة لمنح ابني لأي عائلة محافظة من أجل دخوله للمدرسة ، شريطة أن تتحمل تكاليف تعليمه وتبتسم بسخرية لكن من سيفعلها ، أعتقد أنني لو نمت في الشارع صحبة ابني لن يهتم أحد لأمرنا الليبيون أصبحوا قساة القلوب ، توجهت لجهات عدة لمساندتي وطفلي لكن الآذان كانت صماء عن سماعي إلا ما ندر ، أما القلة الذين وعدوا بمساعدتي ولم يفعلوا فلم أحاول الاتصال بهم مجددا
كانت سيارة الأجرة التي نقلتها من محل إقامتها الجديد الواقع بطريق المطار بسبها تنتظرها بالخارج ، لكن يبدو أن السائق الذي لم يأخذ منها إلا عشرة دنانير ثمنا لمشواره الطويل بعض الشيء متعاطفا مع الطفل الصغير ووالدته أو أنه مجبر على ذلك فظروف ضيفتنا القاسية لن تمكنها من زيادة المبلغ تحت أي ظرف كان .
سوء الحظ قريني الذي لا يبرح قربي
تنفست عائشة بعمق واسترسلت : خلقت يتيمة وسرعان ما غادرت والدتي الحياة لأبقى رفقة أخي الوحيد ، لا أقارب لديّ عمتي الوحيدة أيضا غادرتنا العام الماضي على عجل إثر مرض لم يمهلها طويلا تعرفت على والد فراس وأنا طالبة جامعية جمعنا الحب الذي أثمر وحيدي لكن لم نتمكن من الاستمرار في العيش معاً ولم أتمكن أيضا من إكمال دراستي تركت مقاعد الجامعة وأنا في السنة الجامعية الثانية ، وكأن سوء الحظ قريني الذي لا يبرح قربي ، ففي حرب 2014 بمدينة أوباري التهمت النيران الكلية التي كنت أدرس فيها ولم يتعرفوا على من قام بذلك المهم ذهبت جميع مستنداتي هباءً منثورا .
30 ألف دينار مقابل التنازل عن وحيدي
تستأنف لقد كنت طالبة متفوقة وأعتقد أن فراس سيكون كذلك هاجس تعليمه يشغلني سجلته في المدرسة لكني لا أمتلك وسيلة لتوفير النقود اللازمة لتعليمه ، والده أوقف النفقة عني بمجرد عودته لمدينته زليتن وعرض عليّ هو ووالديه 30 ألف دينار مقابل التنازل عن وحيدي ماذا سأفعل بالمال بلا فراس؟ وعندما يكبر كيف سأقابله إن تنازلت اليوم عنه؟ وأنا التي رهنت مرتب الضمان حتى أشتري له قطعة أرض وأبنيَ له عليه بيتا يحميه من المبيت في الشوارع ، وعلى أرصفة هذه المدينة أو غيرها من المدن الأخرى .
الحزن يستولي على ملامح عائشة البشوشة ، مع دخول فراس علينا فجأة في المكتب ، لكن ابتسامتها الخجولة تشق الطريق من بين بوابات الخوف التي تحاصرها ، تضطرب حركتها تحت العباءة السوداء الفضفاضة التي ترتديها ، أحد الزميلات تتبرع بأخذ فراس الجميل لحديقة المبنى حتى لا يرى دموع أمه ولا يسمع الحديث عن مقايضة والده وعائلته لها حتى تتنازل عنه بعد حرمانها من حق النفقة .
تؤكد : كان وضعي جيدا قبل هروب زوجي إلى مدينته زليتن كان يدفع النفقة (150 ) دينارا مصروفا ، بالإضافة إلى إيجار الشقة (350 ) دينارا لكنه امتنع عن الدفع بمجردة عودتها لمدينته اتصلت به مرارا بلا جدوى لقد تركني بين مفترق طرق .
هاجس الطرد يلاحقني أينما ولّيت وجهي
تستدرك : توجهت للكثيرين لكن قلة من مدّ لي يد العون ، أنا الآن أقطن في طريق المطار استضافتني إحدى العائلات لكن لا أدري إلى متى سيتحملونني أنا وابني لا أنام أبدا هاجس الطرد يلاحقني أينما ولّيت وجهي ، لو كان صاحب الشقة أكثر رحمة ومنحني أمتعتي التي احتجزها ربما تمكنت من بيعها حتى بثمن بخس ووفرت لفراس مستلزماته الدراسية .
تتنهد الشتاء على الأبواب وبحثت كثيرا عن مهنة ولم أحصل عليها طرقت الأبواب لكنها جميعاً موصدة وبإحكام في وجهي ، لم تبقَ إلا المساجد أمامي ، الناس هنا يتعاطفون مع أي شيء يأتي من الجامع ، سوف أقوم بتوزيع قصاصات على أئمة المساجد وسأبحث عن عائلة تتكفل بتدريس ابني سوف أهبه لهم على أن يحسنوا إليه ، شريطة أن يبقى بقربي ويعود لحظني فور انتهاء الدراسة.