- سعيد بو الشنب
- *شهادة : عبد الكريم الجماعي…في الخمسين تبدأ الكتابة */ *
الخطاب القصصيّ يخترِقُ جميع المجالات .أ ليستْ حكايات الجدّات الطيّبات قصّة و نميمة المقاهي _الّتي لا بُدّ منها _ قصّة وأحاديث قاعات الاُنتظار عند الأطبّاء و العرّافين و حتّى الأولياء قصّة و بطولات العشّاق المساكين أو الميامين و مزاعمهم
و هزائمهم و مصارعهم قصّة و تكاذيب الأطفال في ساحات المدارس أو الأحياء قصّة و حكايات حمّامات النّساء الآسرة أو الخاسرة قصّة….؟؟ لكن جرت العادة الأدبيّة الجهريّة أن نُسمّيَ قصّة ما اُستقرَّ بين دفّات المجلّات و الصّحائف و نحوها أو بين دفّتيْ كتاب هو مجموعة قصصيّة مثل ما صدرَ أخيرا : حكاية رجل صالح و قصص أخرى لعبد الكريم الجماعي عن دار الفردوس للنشر.قدّمها أستاذنا الجليل سعيد السّاري تقديما شافيا وافيا كافيا ضافيا قَلَّ نظيرُهُ فيما قرأتُ و فيما لم أقرأْ.
عرفتُ عبد الكريم هذا منذ ثلاث سنوات كاتبا فايسبوكيّا يَتلمّسْ طريقه إلى النشر فدارت بيننا حوارات و اُستطرادات و مُراجعات و مُلاقحات دارت معها أقداح من القهوة الحلال و الماء الزّلال فنمّينا تجاربنا الصّغيرة ثمّ انفتحنا على تجاربَ مشرقيّة و مغربيّة في الشّعر و النّثر على صفحات الفايسبوك أو في المجلّات الألكترونيّة ثمّ في الصّحف و المجلّات العربيّةفي فلسطين و مصر و العراق و الكويت و أستراليا و المغرب و ليبيا و الجزائر -و كدتُ أضيفُ تونس الحبيبة- و غيرها…
فنمت التّجربةُ ما شاء لها أن تنموَ رغم بعض الهِنات البسيطة هنا و هناك و زادت معرفتنا بنصوصنا عُمقا و عَبَقا و ألَقا و حَبَقًا حينما تعرّفنا إلى أستاذنا سعيد السّاري صديقا و أبا و كاتبا و ناقدا و شاعرا فأثرى نصوصنا بقراءاته البديعة بل اُستطعنا أن نعبُرَ من خلاله إلى أنفسنا و إلى نصوصنا فُعدنا نبحثُ فيها عمّا قاله عنّا و فيها .
سألني أحدُ الرّفاق من الكتّاب الأبرار ” لِمَ بدأَ صاحبنا الكتابة في الخمسين؟؟”..اِستوقفني السّؤالُ و اُستثارني و شَحَذني .لكن لا أرى نفسي جديرا بالإجابة فلستُ مُحقِّقا و لا عرّافا و لا قِسّا يملكُ كُرسيَّ اُعتراف و لا عالمَ نفس .إنّما هي مَحْضُ اُحتمالات قد يكونُ أحدُها صحيحا و قد تكونُ الأخرى صائبة .ربّما في هذه السنّ اُستقرّت تجربته المهنيّة و الاجتماعيّة بعد أن قضى سنوات مُتنقّلا بين القرى و الأرياف و المدن فاُستقرّ عمله في مارث حيث صارَ له مكتب و أرشيفُ عمل و اُستقرّ سكنه في مدنين الجنوبيّة حيث صار له بيت ومكتبة والمكتبة مثل المرأة تماما تكرهُ الإيجار و تمقتُ الاُنتقال من دار إلى دار..و ربّما في هذه السنّ اُكتمل بناؤه النفسيّ فصارَ يُمكنه أن يتملّى الماضي و جراحه دون أن يتلوّى و أن يتلمّس ندوبَ الرّوح دون أن يتوجّس .أضحى يرى هذا الماضي فيكتب عنه دون أن يكون أسيرا لديه بل أكثر من هذا يستطيع الآن أن يقف أمامه عينا لعين فيفتح كفّيه واضعا إبهاميه على صُدغيه فاتحا فمه مخرجا لسانه مُردّدا له “لقدنجوتُ…لقد نجوتُ..لقد نجوتُ..”و ربّما هي رياح الحرّية الّتي عصفت في العقد الأخير على البلاد و أرواح العباد فسرت كالنّار من الأحلام إلى الأقلام …و مهما تعاقَبتْ هذه الأسبابُ و تنادتْ و تدانتْ و تناءَت و تبايَنت و تناوبَت و تدافعَت و تناكَفت و تكاتَفت و تكافلَت و تناكبَت فلاشيءَ أدفعُ للكتابة مثل الفشل فالفشلُ أبو الكتّاب جميعا و لا يدخلنّ علينا إلّا من كان فاشلا ..نفشلُ في الاُحتفاظ بمن نحبّ أمّهات و آباء و أصدقاء فنكتب و قد تتأخّر أنثى القلب أو تُعرِضُ عن شَغَفِ الرّوح و شَغَبِ الجسد فنكتب و تتكسّرُ النِّصالُ على النِّصالِ فنكبِتُ ما بِنا و نكتبُ و يرحَلُ الشّبابُ فترحلُ معه الأحلامُ العِذابُ فنكتب. و نفشلُ في العُبور إلى حياةٍ كالحياة بعد أن طالَ الطريقُ و نفدَ الزّادُ فنكتبُ و نفشلُ في بناء وطنٍ و تحرير وطنٍ و توحيد وطنٍ فنكتب. وقد ننجح في كلّ هذا كلّه أو بعضِه فنصمتُ .
سلام على الخائبين أحياء أو أحياء أينما كانوا .سلام على الّذين يُفاخرون بهزائمهم أمام الحبّ و الموت مثلما يفاخرُ غيرهم بأوهام نصر مزعوم .
عبد الكريم الجماعي سَليلُ مدينتين : قابس الّتي أنجبتهُ و علّمته المشيَ في دروب توجان الوعْرة و الشّغَبَ في شِعابها و وديانها و مدنين المدينة المُنبسطة الساحليّة الّتي درّسته و علّمته الكتابة مِن خلال حواريّيها الاُستثنائيّين و حواريها المُظلمة و غير المُظلمة….هو إذن بين مدينتين : رِجلٌ و قلبٌ هناك و قلَم و ذِكرٌ هنا .
أمّا سعيد السّاري فرجل مُهاب موصولُ الصّمت إلّا إذا تعلّقَ الأمرُ بالكتابة و الفكر و الأدب بلغَ من العمر ستّين حِكمة و تبصّرا و مابين الخمسين و الستّين هو مابين الكتابة و التقديم الّذي كان نصّا على نصّ بل فصّا على فصّ .
عبد الكريم الجماعي صاحب الخمسين يدخلُ نادي التأليف و النّشر و التوزيع بمجموعته الأولى “حكاية رجل صالح و قصص أخرى ” فيلِجُ عالم المكان و تفاصيله و خبايا النّفس البشريّة الغريبة الّتي تفرح و تحزن و تنجح و تفشل و تتقدّم و تنكفئ لكنّها تكتب دائما….فبالكتابة تواجه سخافات هذا العالم القميء و مظالمه الظالمة و تُحاربُ هزّاته و اُنكساراته و تبني أوطانا تستحقّ أن نعيشَ لأجلها و تعيشَ لأجلنا .
أخيرا….ما أكثرَ القُصّاصَ حين تَعدُّهم لكنّهم في الإبداع قليلُ .
آخرا….تقول الأخبار إنّ نابغتيْ بني ذُبيان و بني جَعْدَة نبَغا في الأربعين أمّا نابغةُ شِعاب توجان فقد نبغَ في الخمسين أمّا أستاذنا الجليل صاحب الستّين فذلك حكاية أخرى .
سلامٌ رائع لأرض توجان .
سلام رائحٌ للخمسين و الستّين .
سلام غادٍ لسعيد و عبد الكريم .
سلام بادٍ للقرّاء الكرام .