عودة الي النشر والفكر وسبها وغانم العظيم وبحر تليل

عودة الي النشر والفكر وسبها وغانم العظيم وبحر تليل

  • د / مصطفى الفيتوري

غرامي بالقراءة كما سبق وقلت قادني الي “سوراقيا” التي وقع نظري عليها في أثينا. “سوراقيا”مجلة ظريفة وشاذة عن الجوقة وقومية يسارية وغير تقليدية! كان يصدرها غسان زكريا من لندن وهذا الغسان من بقايا الحزب القومي السوري الأجتماعي المعروف بتاريخه النضالي من اجل الوحدة العربية ومقاومته في الجنوب اللبناني. أكثر تنظيم قومي متطرف في تبنيه للقومية العربية! في وقت ما من عام 1991 تقريبا بدأت المجلة تشن حملة على ليبيا فأزعجني الأمر فكتبت لرئيس التحرير طالبا له أن يحاورني! وكأنني وزير أعلام ليبيا وأنا في الحقيقة مجرد طالب!
@ أخبرني السيد غسان زكريا وبعد جدل أنه مزعوج لأن السفارة الليبية في لندن لم تدعوه ولا مرة لأحتفالات الفاتح! يعني هو يبتز البلد بصيعة ما! ثم قال لي: الدين دخلوا الخيمة ليسوا أشرف مني؟هذه أترث في مشاعري فرددت قائلا: أنا ٍأدخلك الخيمة أن كان هذا كفيلا بوقف حملاتك! طبعا فشلت في أدخاله حتى الي ليبيا مش بس الخيمة اللي أنا نفسي ما عمري دخلتها! مازلت أحتفظ بـ”سوراقيا” في مجلدات! ما عادت سوراقيا تصدر اليوم! في سنواتها الأخيرة نال منها الخليجيون برفع قضايا ضدها في لندن وغالبا يكسبونها!
@ في كل مرة أعود الي طرابلس كنت أقيم في فندق باب المدينة حتى أصبح عنوانا لي طالما أنا في ليبيا وصرت صديق بعض العاملين فيه. الغرفة 502 أرتبطت بي أرتباطا وثيقا! غالبا ما يحدث ذلك في الصيف وغالبا ما يكون بعض الأصدقاء هناك أيضا. عبدالله كان مدمن باب البحر. كنا “مشردين” ان صح القول بلا سكن في العاصمة!
@ الشلة، التي ستضم لاحقا اخرين، انا وجدتها قائمة قبلي. كانوا يعرفون بعضهم قبل أن أتعرف عليهم. معرفتي بعبدالله قادتني الي البقية/ اخريص رحمه الله ومصطفى وسعد ومحمد وفرج وعمر وبشير وأدريس وابريني وغانم رحمه الله! المعذرة ان نسيت أحدهم! غانم عرفني كأسم قبل لقاءنا في بيت عبدالله في سبها. أطال الله في أعمار البقية سأقول بضع كلمات هنا عن غانم!
@ بشكل ما ظلت هذه الشلة حالة خاصة.لا تلغي علاقات كلا منا مع الآخرى ولكنها لا تهضمها بسهولة! ليس من السهل أدماج أحد جديد فيها ويصعب أخراج أحد منها وكأنها لوبي سري! والحقيقة أنها مجرد رفقة أنسانية برئية! 
@ غانم ذلك النوع من البشر الذي أن أحبك أو كرهك فهو لن يؤذيك ولن يخبرك: عليك أن تكتشف ذلك بنفسك! والحب والكراهية عنده تحدد غالبا في اللقاء الأول! أن قال غانم أن فلان “مش رزق” معناها ان غانم لن يقبل المعنيّ أبدا! ولكنه أبدا لن يحقد عليه ولن يتقوّل عليه خاصة في غيابه! ولكنه سيذكّرك بقوله أن “فلان مش رزق” أن أنت عدت بعد سنين تشتكي فلان ذاك لغانم! غانم لا ينسى رحمه الله والموت لن ينسيني أياه!
@ منذ ان عرفت غانم وهو محب لسبها وقلما يغادرها. لا يضايقه حريق الصيف فيها ولا زمهرير ليالي شتاءها. غانم أيضا عفيف اليد واللسان ورغم ظروفه يندر ان يطلب اي شئ من أي أحد! كان عبدالله عيونه التي يرى بها ولا يقبل فيه أذية مهما صغرت: هل يقبل أحد أذية في عينيه؟ هذا لا يعني قناعته بكل ما في عبدالله! وغانم كان قلب عبدالله بمعني البصيرة هنا! سيمر وقت طويل جدا قبل أن أرى أثنين مثلهما!
@ لغانم رحمه الله طريقة خاصة في أستدعاء التاريخ والأمثال الشعبية والمواقف الفكرية وأسماء الكتاب العرب بالذات اذ كان قارئ نهم هو الاخر! وله أيضا مخزون من النكت التي لا تجدها لدى سواه! في الآونة الأخيرة لازمته كلمة يدمجها في كل حديث وهي كلمة “باللي فيها”. في أحد المرات قلت له خلي “باللي فيها” على اليمين وأستمر فرد ضاحكا: بعدين معاش فيها!!!
@ ذات ليلة حارة (أحتلها الكساد) ــ سنوات التسعينيات القاسيةــ كنت في الفندق أنا وعبدالله وخطر لنا في منتصف الليل أن نذهب الي شقة محمد في بن عاشور وبدون سيارة والبلد مقفرة ومظلمة والشوارع خالية! فعلا شققنا المدينة من باب البحر الي بن عاشور! لم يصدق محمد أننا أتينا بلا سيارة! وعدنا طبعا بنفس الطريقة!
@ كنا شباب وبلا مسئوليات. ذات ليلة حارة أيضا وكان عددنا لا بأس به قررنا وفي ساعة متاخرة أيضا أن نذهب الي الشاطئ في تليل ونحن في طرابلس والساعة تجاوزت الحادية عشر وهكذا كان! دون أي ترتيب ولا معدات دهبنا وسبحنا بملابسنا وعدنا كما لو ان شئيا لم يحدث! 
@ خلقنا حياة جديدة في بعض المقاهي الصغيرة في طرابلس اذ كنا من روادها حيت تعقد مناظراتنا ونقاشاتنا الفكرية وتبادل الأخبار والأراء في كل شأن اذ يومها لم تكن الفضائيات كما اليوم والنت غير موجود طبعا.
@ لم أكن أعرف سبها قبل أن أعرف عبدالله. ومنذ ان عرفتها أحببتها. في سبها يصعب أن تحدد أين تنتهي الصحراء وتبدأ المدينة أو العكس. اذا كانت الرمال تعني الصحراء فهي في وسط البيوت وأذا كان البناء يعني المدينة فهو بين سيف رمل وأخر متحزما بالرمل أيضا!
@ ثم تكالبت علينا الحياة وفرقتنا بأسبابها المعروفة! وفي العام 2011 أتت على بقية اواصرنا فشردتنا في أصقاع الأرض ولعبت السياسة بعقول بعضنا. تشتتنا على مضض وفي غفلة منا جميعا! كم احن الي تلك الليالي والأماسي؟ الي جلسة على البحر أو في مقهى القدس (أندثر كليا) أو في شقة محمد او شقة بوهريدة التي جمعتنا وفيها بداء مشوار تشتتنا! او ليلة عند أبراهيم أو مع فرج أو أخريص ومنصور وعمر في 502 او مع غانم رحمه الله على احد سيوف الرمل في المنشيه! يا الله!
@ موت غانم المفأجئ كان كموت ذاكرة بالنسبة لي. كان يقول لي “انا ذاكرتك يا بوصطيف” وكان فعلا كذلك! رحم الله غانم!
—————–يتبع —————–

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :