بقلم :: عائشة إبراهيم
أظنها أكثرَ الليالي صقيعاً في شتاء القاهرة ذلك العام. كان من الصعب أن نتحدث دون أن تصطك أسنانُنا وترتعد شفاهُنا لتبدد كلمات التعارف التقليدية. كل الكلمات ذهبت مع صرير الريح ولا أذكر إلا شالها الأسود الذي كانت تحتمي به وتشده على كتفيها بارتباك، في انتظار الباص الذي سيقلنا من مدينة المعارض إلى الفندق حيث مقر إقامة الوفد الليبي المشارك في معرض القاهرة الدولي للكتاب.
تفاجأت حين تعرفت إليها، فأنا كنت أعتقد أن رئيسة تحرير صحيفة مُعتَبرة لابد أن تكون متقدمة في السن، فولاذية التكوين، صارمة الملامح، لكن تلك التي طالعتني من خلف الشال الأسود كانت شابة يافعة هادئة.. تبرق عيناها بوميض طفولي، وتنثر من حولها ود أهل الصحراء، فيسري دفئها في صقيع تلك الليلة، وما أن عدت إلى غرفتي سارعت بالبحث عن صفحتها على الفيسبوك فطالعتني وردة بيضاء أمامها اسم: “سليمة بن نزهة”. ومنذ ذلك الوقت بدأ مشوار التواصل بيننا.
دردشنا كثيراً، واحتلت صحيفة فسانيا (التي تترأس تحريرها) أكبر مساحات الحديث بيننا، كانت تتحدث عنها مزهوة كما تزهو الأم بابنتها التي تخطو خطواتها الأولى، لطالما كنت أتفهم شعور الأمهات المأسورات بالحديث عن أطفالهن حين يتعلمون الجلوس أو الحبو أو الوقوف أو حين يلثغون بكلماتهم الأولى، كانت سليمة تتحدث عن فسانيا بعد صدور كل عدد جديد، وكأنها وليدة تنهض من الحبو إلى الوقوف، ومن الوقوف إلى الانطلاق، ومن الانطلاق إلى التحليق في فضاء بعيد.
“اعويشة، فسانيا زعلانة منك”، بهذا كانت تعاتبني حين اتكاسل عن النشر في الصحيفة، تقولها بود ومحبة وتتركني أتخبط في خجلي، فهي أبداً لا تعتب في أمر شخصي يخصها، أو يخص عائلتها، ولا تلقي لذلك بالاً، هي لا تعتب أو تغضب أو تحزن أو تفرح إلا لأمر يتعلق بفسانيا، روحها التي جسدت فيها فزانها المحبوب ووطنها الدافئ، تفتح نافذته صباح كل أحد وتنثر باقات العدد الجديد، ومن نفس تلك النافذة نسترق النظر إليها، فنراها في تلك المساحة الصغيرة بمبنى الصحيفة، حولها فتيات وشبان في مقتبل العمر، ينحتون المستقبل بتحدٍ عجيب، وهي بينهم أخت كبرى أو أم رؤوم، توزع المهام، تتابع الصياغة، تراجع العدد، تعد القهوة والفطور، تحتفل معهم بصدور كل عدد جديد، الاحتفال شيءٌ أساسي، ولابد منه عند صدور كل عدد، لأن كل عدد يصدر بما يشبه المعجزة، ولو كانت الاستمرارية سهلة لما توقفت بقية الصحف التي كانت تصدر في ليبيا بعناوين متنوعة، اختفت جميعها تحت قسوة الظروف الخانقة وانحسار الدعم المادي، بل وإيقاف مرتبات الموظفين العاملين بها.
ذات يوم كنت أطالع صورة حفل يجمع فريق الصحيفة وأمامهم أكواب العصير والحلويات، وكانت خلفية الحفل مكتوب عليها: فسانيا تحتفل بصدور العدد (29) فتساءلت متعجبة عن دلالة الرقم 29 فهو ليس العدد الأول ولا العدد المئة ولا أي من تلك الأعداد التي جرت العادة الاحتفاء بها، ضحكت سليمة وقالت: “نحن نحتفل بكل عدد فور صدوره، نجلس معاً في استراحة محارب نقيّم أداءنا السابق ونحزم أمتعتنا لرحلة العدد الجديد”.. أعجبتني تلك الروح المخلصة الجادة المثابرة المحتفية بالإنجاز والباحثة عن أماكن التقصير فهي التي تفسر سر تلك الاستمرارية وسر ذلك العطاء النبيل.
زاد ضغط الظروف المادية حدة وتجبراً، بعد عجز هيئة دعم وتشجيع الصحافة عن الإيفاء بالمتطلبات المادية التي تحتاج إليها الصحف، غادرت قريناتها من الصحف الأخرى المكان وتركت سماء الصحافة الليبية خاوياً، لكن فسانيا لم تتوقف، ازداد فريقها تماسكاً وتمسكاً بقضيتهم وقرروا الاستمرار مهما كانت الظروف.. فسانيا لم تعد صوت الجنوب فقط، بل اتسع رحابها ليحوي كل الوطن، اتجهت إليها الأقلام والقلوب لتعلن عن التحامها بفسانيا كرمزية تعبر عن قيم الحياة المدنية التي تعتبر الصحافة أحد أهم مقوماتها. شاركت أقلامٌ متنوعةٌ من داخل الوطن وخارجه في الكتابة والمراسلات الإخبارية لتغطية المجريات والأحداث والأنشطة والفعاليات، وازدهت صفحاتها بألوان الفرح في المهرجانات التي تقاوم اليأس بالأمل…ترجمت صوت الضمير العام وطرحت مشكلات الليبيين المتعلقة بالصحة والتعليم والأمن والمواطنة والعدالة الاجتماعية.. إزداد الضغط حدة حين توقفت المطابع عن العمل.. فاتجهت وبمساعدة مدير تحريرها الدكتور سالم بوظهير إلى إصدار الصحيفة الكترونيا، حيث وُضعت على الانترنت في نسخة بي دي إف لتصل إلى كل بيت داخل الوطن وخارجه، وافتُتح لاحقاً موقعٌ الكتروني للصحيفة (موقع فسانيا)، ثم تكللت الجهود بتوقيع اتفاقيات شراكة مع موقع ليبيا المستقبل ومع إذاعة صوت هولندا العالمية ومواقع أخرى تضمن لصوت فسانيا الانتشار عبر العالم في قفزات نوعية رائدة.
أصبحت فسانيا قلب الوطن النابض بالأمل والتحدي وروح البقاء، وبداخل هذا القلب كانت سليمة تضخ الدم النظيف في الشرايين، لتطرد بنقاوتها كل السموم والأمراض.
حين فكرت في كتابة هذا المنشور، كنت أحسب أنني سأكتبه عن سليمة بن نزهة الصديقة، كما تنبئ إشارات البداية والتي تحدثتُ فيها عن أول لقاء لي معها، ولكنني للأسف لم استطع أن أسيطر على مسار الكتابة فاتخذ سبيله بعيداً عن سليمة الإنسانة، واتجه نحو سليمة الفسانية، ذلك لأنه من الصعب ان تعزل سليمة عن فسانيا، إن محاولة كهذه تعني انتزاع جذورها من تربتها الندية وإلقائها بعيداً في بيئة ميتة. أدركت ذلك حتى حين كنت أجلس معها ذات مرة في ركن بمقهى طرابلسي أثري اخترته خصيصاً في مكان يعبق بالياسمين وتتدلى حول شرفته عراجين الفل، وضع النادل القهوة وأشعل شمعة في فانوس مزخرف بقطع الزجاج الملون، ومن بعيد كانت تصدح أم كلثوم عبر جهاز بيكاب قديم، رشفت قهوتها بتلذذ وقالت: “اسمحيلي ياعويشة بندير اتصال بالبنات في فسانيا”.. لم استطع أن أسرق سليمة من بنات فسانيا، تحدثت إليهن، تابعت تلك التي لديها مشكلة عائلية، وسألت عن تلك التي مرض والدها، أخبرتْهُن عن آخر مستجدات السعي في سبيل الإفراج عن مرتباتهن الموقوفة والتي جاءت خصيصاً إلى طرابلس في سبيل مخاطبة المسؤولين في هذا الشأن..
حين انتهت من محادثتهن عادت وفتحت اتصالات أخرى بكتّاب ومراسلين، وداعمين أومتبرعين، لم تتوقف عن التفكير في فسانيا حتى في تلك اللحظات التي قبلت فيها دعوتي للهروب بعيداً عن أجواء العمل واحتساء القهوة ذات غروب ساحر. ولم أفلح في أن أسرقها من دائرة اهتمامها لتكون فقط في رفقة صديقتها “اعويشة”.
ورغم استيطان فسانيا بشكل كامل في روحها ووجدانها، إلا أنها تظل رفيقة الوقت البهي، ومُنى القلب المتحفز لروح مُحبة، تأتي من سبها إلى طرابلس محملة بالبهجة، وترسل لي والدتها الكريمة أجود أنواع البخور السبهاوي وهدايا أخرى متنوعة وممزوجة بسلام الوديدات، يتجاوز موسى (شقيقها الصغير) تعليمات والده الذي كان قد أوصاه بألا يبتعد عنها مهما كانت الأسباب.. يسمح لي بأن اصطحبها لترافقني في جولة بسيارتي في شوارع طرابلس… تجلس بجانبي.. تحكي بسعادة غامرة.. تثرثر كالأخت المشاكسة، وتستخلص عميق تجربتها كالجدات.. تحضرها الشواهد والحكايا والمأثورات الشعبية.. تترحل بين القصائد المحفوظة في ذاكرتها لشعراء من كل بقاع الوطن. (عمر عبد الدائم، محمد الدنقلي، مبروكة الأحول، سالم العالم، عادل عبد الكريم، …. ) تسألني: “هاذيكا القصيدة للصيد الرقيعي هل سمعتِها؟ ” .. “أي قصيدة؟” أسألها أنا، فتجيب: “قصيدة عيون سالمة” أضحك أنا وأنظر إلى عينيها السوداوين البراقتين كطفلة، وأقول: “تقصدي عيون سليمة”، تضحك.. تميل بمسند كرسي السيارة إلى الخلف قليلا، وتفتح شاشة تلفونها وتقرأ لي بإلقاء شعري ساحر :
عيون سالمه تذكار … علي جبين غيمه عاشقه… عيون سالمة أشعار … ف خيال ليلة بارقه… عيون سالمة أسرار … ف أحضان نجمه مفارقه… عيون سالمه أقدار … ف أحزان مركب غارقه… ف الليل… في نجوى الغريب وشوقه … ف الحزن.. … ف رعود الشتا وبروقه… تخطر عليّ سالمه… ونشتاق صمت عيونها… ف الحب … .ف أنفاسه…ف نبض عروقه…
تتابع القراءة وأنا أمسك بمقود البيكانتو الصغيرة، عيناي على الطريق المزدحم، تغيب القصيدة والصيد الرقيعي وعيون سالمة، ويحضر الود والنضال النبيل ومعنى الوطن.. يتجلى لي بنصاعة بين صفحات فسانيا وعيون سليمة.
“تهنئتي الخاصة إلى صحيفة فسانيا في عيد ميلادها السادس، كل عام وأنتم بخير”.