حسن المغربي
لقد جعلتُ بغباء ودون وعي الأشياء العزيزة ألعوبة أتسلى بها كما يفعل البلهاء، كانت رؤيتي للعالم رمادية بل قاتمة، وكانت السعادة في نظري انغماس أكثر في المتع الحسية دون تفكير فيما يعقبها من ألم، وبعبارة واضحة، لقد كنتُ على مذهب أرسطيفوس “الخير الأوحد هو الاشتهاء” وطالما اِقْتنَعتُ بأن طهارة الحب لا تعني شيئا، ولم يدر بخَلدِي قط أن أتخلى عن أفكاري الصبيانية، أن أحب بصدق وبالمعنى الكلاسيكي لهذه الكلمة ،ربما ! عندما يصبح لدي أحفادا وأعتزل الحياة على نمط رجل الساتفا اليوغاوي حيث الانعتاق والصفاء والشفافية .. أن أسعى نحو امتلاك أكبر قدر من اللذة، وأن أشبع الرغبات والشهوات كافة، هذا ما كنت دوما أسعى إليه، وفي جميع الحالات كنتُ أفهم الحب على أنه ممارسة صارمة لشحنات مكبوتة، يحتاج إلى إنعاش دائم مثل الأجهزة الذكية. لم أخشى يوما الجرح الذي يحدثه الانفصال أو ذلك الشعور الذي يتصل بالألم والأنّات، ما أفكر فيه هو الموقف الحاسم، اللحظة الحميمة، ومن ثم ينتهي كل شيء، ولا يبقى سوى رجع الآهات وبيانات تافهة على دفتر الموبايل مسجلة على طريقة ماركيز.
كنت على الدوام، أنادي بتقديس اللذة بإلحاح شديد، واعتبر جسم المرأة من عناصر الألوهية، والحب هراء محض، هستيريا شعرية، جوع من ضرب آخر غير الجوع إلى الطعام بحسب تعبير المازني، وكان الوفاء في نظري لا يصدر إلا عن نفس متخاذلة، و طرق الإغواء مجرد استخدامات لإدراك غاية، لا يوجد فيها قدر ضئيل من الإخلاص والعاطفة.
وفي لحظة ما، ربما من سوء حظي أو حسنه، ومن يدري؟ رأيتُ وجهكِ على صفحات (الفيسبوك) استولت علي دهشة مرعبة لا أستطيع تحديدها ولا أعرف بواعثها، وضاق صدري وأخذت نوابض الحياة جميعها تخمد وتظلم بصورة غريبة،وصارت مهجتي ثكلى، وضاعت جميع مظاهر الأشياء الجميلة، ووجدت نفسي فجأة أحمل روحا بالية، وشعورا قاسيا يكاد يسحقني، قلت لنفسي:كان من الممكن أن أعيش نشوة الفرح، الحب الطاهر، الدفء، الهذيان، لو أني فقط ..! لو أني ماذا؟ لا شك إن الذي قادني إلى هذه القناعة ليست الهواجس ، وإنما ذاك الحلم المتناسل من الذاكرة.
ما زلتُ حتى هذه الساعة أذكر رغم مرور أكثر من عشرين سنة، جميع تفاصيلك المذهلة بما فيها ضحكتك التي تشبه ضحكة الغجر! الأفلام التي شاهدنا في السينما ما زالت محفورة بالذاكرة، أشعار الشابي وطاغور وبودلير ما زلت أحفظها على ظهر قلب، ولا أخفى، يومها، رددت بحسرة يائسة كلمات شاعرك المفضل ” ما كان ضرك لو أشبعتني قُبلا، فإنها صور من روحك الهاني.. وتذكرت رقصة زوربا وأغاني المزود والقلادة الفضية، وحي النسيم، ورفعت حاجبيك وخصلات شعرك المنساب على جبينك.. حينها، لم أفعل شيئا، لقد سد العالم في وجهي، صحت، وعواطف الفناء تغتال ذاكرتي.. وماذا أقول عن خيبة الحب! أأهرب إلى الماضي وأناجي الأطلال أم أترك نفسي لموت الأماني بعدما ذوت يافعات الزهور.. لا يبدو أن صورتك تغيرت بعد كل هذه الأعوام، أليس كذلك؟ ما زالت بشرتك نضرة، وخصرك نحيف، أما عيناك، أواه، يا لهما من عينين مقدستين جميلتين.
نعم، إن أول لقاء بيننا لم يكن عند بائع الجرائد الأحمق الذي أغضبكِ، وحاول ابتزازكِ من أجل دراهم حقيرة، وإنما اللقاء الحقيقي كان في المقهى الليلي على ضفاف البحيرة، حينما أهملنا العالم وأخذنا نتحدث بعفوية عن تفاصيل حياتنا اليومية .. كنتُ أنظر إليكِ بدهشة من ينظر إلى حوريات الأوديسة… لقد كنتِ حقا فاتنة، مضيئة، شعلة متوهجة، كنتِ أجمل من باسكال مشعلاني التي كانوا يُشبهونك بها، ما زلتُ أستغربُ -حتى هذه اللحظة- كيف اجتمع الطيش والجمال ونحن نلهو في المقهى، كنا نشرب ونغني ونضحك بصوت عال.. قلت لي: أنت من الشرق؟ فكان الجواب: نعم أنا من مملكة الشمس !! يا لها من حسرة وسوء تدبير، كان عليّ أن أقتنع بجدوى العبارة التي تقول: إن السعادة والجمال لا يمكن أن يتحدا طويلا، فرباط الحب ينفصم مثلما ينفصم رباط الحياة. أن تنتهي علاقتنا بتلك الطريقة المخجلة! أن تنُتهك عواطفنا و تتحول لأشياء آثمة يُستحى منها، ونقنع أنفسنا مرارا بأن الذي كان بيننا مجرد نزوة، شيطنة، لهو عابر، هذه هي الخيانة، كلانا يا حبيبتي خان، وباع نفسه، وزعم أن السماء تجنت عليه، ومع هذا، سأقول بلغة نزار الشرق: شكرا، أتمنى لو جدتِ من يُحبكِ مثلي.