في لقاء لتقديم كتابها الأخير”الوطن- الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة”
متابعة الباحثة: فاطمة الزهراء عجول
نظم مختبر السرديات والخطابات الثقافية، كلية الآداب بنمسيك – الدار البيضاء والجمعية المغربية للباحثين في الرحلة، بشراكة مع المكتبة الوطنية بالرباط، يوم الأربعاء فاتح مارس 2023 في الساعة الثالثة بعد الزوال، ندوة علمية حول الكتاب الأخير للأستاذة والناقدة المغربية فاتحة الطايب: “الوطن- الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة”، بمشاركة الأساتذة: عبد الرزاق الجاي وعبد الواحد بنعضرا ورضوان ضاوي. وقد ترأس الجلسة الناقد والمترجم المقتدر الأستاذ أحمد بوحسن ، الذي أشار في بداية اللقاء إلى مكانة الأستاذة فاتحة الطايب وأهمية مؤلفاتها في الدرس النقدي المغربي.
وقف ذ.عبد الرزاق الجاي في المداخلة الأولى التي عنونها ب”عالمية الأنموذج المسلم في رحلة ابن بطوطة” على محطات رئيسية في هذه الرحلة، التي جعلت صاحبها يتميز بالعالمية والمواطنة الكونية. لخّص الجاي هذه المحطات في: التصوف، السياسة والخلافة، والمقارنة الاقتصادية. وبرهن في مرحلة أولى على أن ابن بطوطة ذي المرجعية الصوفية قد قدّم منظورا أوسع لمفهوم التصوف بحيث لم يربطه بالزهد في ملذات الحياة والبقاء في زاوية يذكر فيها المريد ربّه، وإنما بالسير في الأرض واكتشاف عجائب خلق الله. ثم بيّن كيف أن الرحالة قد أسهم من زاوية موقع بلده الحسن ضمن بلدان الأمة الإسلامية في الجدل الفقهي الذي كان قائما آنذاك حول الشروط الواجب توفرها في الخليفة، والتي حصرها في ستة مع التأكيد على ضرورة الجهاد والاجتهاد لتحقيق ازدهار الوطن والأمة. وفي هذا الإطار عمد ابن بطوطة إلى المقارنة بين العملة المغربية وعملة بعض البلدان العربية التي زارها، رابطا ازدهار اقتصاد بلاد المغرب، بالاستقرار السياسي والتضامن الاجتماعي، وليس بنوعية النقود وحجمها. في الأخير، أنهى الجاي مداخلته بِحثّ الطلبة والباحثين على العناية بهذه الرحلة التي تشكل جزءا هاما من تاريخ العالم لأن من لا تاريخ له لا حاضر ولا مستقبل له.
الورقة الثانية قدمها الأستاذ رضوان ضاوي وركز فيها على الفصل الثالث من الكتاب، الذي عالج مفهوم التوتر والتصادم الحاصل في الرحلة بين الرغبة في التعرف على الآخر المختلف والتقيد بالسلطة الدينية التي قسمت العالم إلى دارين، دار الإسلام ودار الكفر. وقد بيّن الكتاب كيف خفّ هذا الضغط الديني في القسطنطينية؛ مع انعدام الرقابة، حيث تعامل ابن بطوطة مع المستوى الحضاري لغير المسلمين بموضوعية وبروح من التسامح. عرّج الباحث أيضا على ملاحظة الأستاذة الطايب بخصوص مساهمة المترجم البيزنطي المرافق لابن بطوطة في تشييد صورة متخيلة لهيبة القسطنطينية من خلال سلاح اللغة اليونانية التي كان يجهلها الرحالة؛ فالمترجم لم يكشف له عن الصراع المسيحي (الكاثوليكي-الأورثذوكسي) ولا عن المعالم الإسلامية (المساجد) التي كانت موجودة في القسطنطينية. مما يعني أن صمت الرحالة عن هذه المعالم، صمت يحيل على سلطة المترجم المتحكم في المعلومة والوجهة.
وفي سياق المقارنة، أشار ضاوي الباحث الألماني رالف إلغَر الذي قام بترجمة ألمانية ثانية لرحلة ابن بطوطة، وذكر في مقدمتها أن شخصية الرحالة تتميز بتعدد الآفاق والوظائف، فهو المتصوّف الذي يعمل على تقوية إيمان المتلقي المغربي والرحالة الذي يزوده بالغريب والعجيب والمسلّي. وسجل الباحث اتفاق الطايب وإلغَر على تعامل ابن بطوطة مع غير المسلمين بموضوعية مقرونة بإعجاب وبتسامح بمرجعية دينية، ما يجعل منه إنسانا كونيا.
الورقة الأخيرة والموسومة ب “الخلافة وطموحات أبي عنان، قراءة في كتاب ‘الوطن-الأمة وأوروبا المسيحية في رحلة ابن بطوطة””، قدمها الأستاذ عبد الواحد بنعضرا وخصت بالدراسة الفصل الثاني من الكتاب لتقدم لنا توسيعا علميا للبعد التاريخي في رحلة ابن بطوطة، من خلال تسليط الضوء على توظيف الألقاب في الرحلة. وقد لخّص أهم أفكار المؤلِّفة في نقط، منها؛ أن نص الرحلة مُعبّر بشكل كبير على طموحات أبي عنان، وأن السلطة المرينية تعمل جاهدة على تحقيق طموح توحيد المغرب الكبير، وأن ابن بطوطة في رحلته خصّ أبا الحسن علي ابن سعيد بلقب أمير المؤمنين دون سواه من الملوك. كما وقف بنعضرا على فكرة الطايب التي تفيد أن توظيف لقب أمير المؤمنين في حق سلاطين المغرب في رحلة ابن بطوطة تحيل إلى قوة المغرب في علاقته بالمشرق، وأن الرحالة وظّف آلية المقارنة للتأكيد بأن المغرب ينصر الإسلام ليخلص إلى اعتباره القطب والمركز، أي الأمة-الوطن مثلما يتّضح من تلقيب السلطان المغربي في الرحلة بخليفة الله في الأرض، وأن تخصيص ابن بطوطة لحيز كبير لذكر فضائل السلطان أبي عنان، هو تأكيد من زاويته لأحقيته في الخلافة وقدرته على توحيد صفوف الأمة الإسلامية. بعد ذلك استعرض بنعضرا العديد من الاستشهادات التي تفيد استبعاده فكرة أن تكون لأبي عنان طموحات للتوسع في المشرق وذلك لثلاثة أسباب: زوال هيبة الخلافة، عدم اعتراف الأدبيات المشرقية بالخلافة المغربية، واقتصار المؤرخين المرينيين على التأريخ للمغرب الأقصى.
استهلت الأستاذة فاتحة الطايب كلمتها في آخر اللقاء بعرض أهم دوافع اهتمامها برحلة ابن بطوطة، وصولا إلى تساؤلها بعد التعمق في دراسة الرحلة والأبحاث التي أُنجزت حولها: ما الذي يبرر اليوم وصف ابن بطوطة الفقيه المغربي المسلم القروسطي (القرن 14م ) بالمواطن الكوني والحال أنه لم يتعد النصف الشرقي للكرة الأرضية باستثناء بضع أجزاء؟
لتُجيب بأن مفهوم المواطنة الكونية مفهوم متعدد الأبعاد في غياب وطن موحد مخصوص اسمه “العالم” ينتسب إليه المواطن باوراق ثبوتية يكتسب من خلالها الحق الفعلي في المواطنة. فأن تكون مواطنا كونيا اختيار فردي له علاقة بمدى إيمان الفرد بانتمائه الإنساني وقدرته على تقبل الاختلاف ، مع العلم أن الاختيار الحر للفرد يظل مرهونا بالموقع الجيو -سياسي والإرث التاريخي والثقافي للوطن الذي ينتمي إليه المواطن بأوراق ثبوتية .
اوضحت الطايب ان ابن بطوطة، ثنائي اللغة والثقافة (عربية-أمازيغية)، الذي انطلق وحيدا من مدينة طنجة “البينية”، قد قام برحلته واخترق العوالم الاسلامية وبعض الأجزاء الاوروبية المسيحية وهو واثق من نفسه بفضل انتمائه إلى المغرب، البلاد الشريفة، وانتمائه إلى الأمة الإسلامية. وفي اثناء رحلته يتضح لمتتبعه أنه كان واسع الأفق وأن فطرة السياحة لديه جعلته يسعى إلى الاطلاع على العجيب والغريب مع الالتزام بالموضوعية المقترنة بخلفية دينية ليس في البلاد المسيحية فحسب، بل حتى في البلدان الوثنية. موضوعية مكّنته من عقد مقارنات، والتأسيس لعلاقة ” لطف ” مع الآخر المختلف بعيدا عن كل تعصب في الغالب . الأمر الذي يجعل منه إنسانا متميزا اليوم ، شمل الانتماء إلى الأمة الإسلامية بالنسبة إليه الانتماء بالضرورة إلى وطن يملك خصوصية تغذي الاندماج ولاتعيقه ،كما ان الانتماء إلى بيت خاص(طنجة -المغرب )، في ظل انتمائه إلى البيت الإسلامي ، جعله يربط علاقة إنسانية مع الآخر المختلف الذي يثمن بموضوعية حضارته وثقافته المادية .
مايستفاد منه اليوم ، أن الذات التي لا تنتمي إلى وطن خاص ، ذات لاتملك مايخول لها السعي وراء المواطنة الكونية لأنها تعد في هذه الحالة على هامش العالم .