- قصة قصيرة / عمر بن ناصر حبيب
لطالما كنتُ مُحرجًا معه، كلّما قابلته على المصعد داخلًا أم خارجًا، وفي كلّ لقاءٍ به كنت أحييه بابتسامة أحرص أن تبدوَ مشرقة رائقة ودونما أي تكلّف، هذا إذا فشلت عيناي في الهروب من ملاقاة عينيه الهادئتين. في ذلك اليوم اختلف الأمر تمامًا؛ إذ شعرت أن ما يحدثه صغاري من حركة وجلبة وزعيق في العمارة، ربما تجاوز حدّه؛ فباتت مزعجة لكل من يقطن الطوابق أسفلنا.. ففكرت أن أزوره وأفرض عليه صحبتي والتعرف إليه؛ كي أتحاشى شيئًا من ملاماته، التي بدت لي أنها مكتومة، وقد تتفجّر في وجهي يومًا ما، وظلَّ ذلك ملازمًا لي زمنًا طويلًا، ويسكن مدارات تفكيري دائمًا في صحوي ومنامي، ويؤرّقُ أجفانَ روحي، ويبثُّ القلق في حنايا وجودي، إلى أن زرته.. دخلت شقته… كلماته الهامسة الهادئة أحاطتني بخِدرٍ من وسن.. الأشياء من حولي كانت صامتة؛ الهواء.. التلفاز.. الأنفاس.. أطراف الجسد.. كلُّ شيءٍ في استقبالي كان صامتًا حتى الموات، والسكون يفجّر فيَّ وعي الحواس؛ يتسع النظر لديَّ إلى أقصى مدىً له، فأخَالُ أن الكتب في رفوفها ترتعد في اصطفاف مستمر، والرسوم في الأرائك والكراسي تتداخل خطوطها في تدرجٍ لونيٍّ لامعٍ، والتماثيل الصغيرة في الأركان تتبارق مع الضوء، كأنما تمتشق روحًا من أحياء، وتحتدم الأصوات في مسامعي صاخبةً عنيفةً، وكأنها تتهيّأ لاحتضان صرخات خلق موجوداتٍ جديدة.. وأطراف أناملي تتشاعر أنداء السديم في الفضاء القريب، وروائح الأشياء تنفح نسيج أنفي متغلغلةً فيه حتى ارتجاج الأعماق… يأتي من الداخل نسمةً رقيقةً حانية ممسكًا بصفرة الضيافة، ومبتسمًا يعيد ترحيبه بي، مع ارتطام جزءٍ من بدن الصفرة بسطح الطاولة الزجاجية: “والله، ياهلا بالجار..”؛ فيُحدث طرقًا خفيفًا يخدش وجه السكون، الذي يُضعف شيئًا من وعي الحواس، ثم ينساب صوته أنيقًا: – قل ياجار، الأولاد معك هنا أم في بلدك؟ – معي هنا، ألا تسمع ضوضاءهم، ودلف أقدامهم يتراكضون فوق شقتك؟ – أسمع حركةً خفيفةً أحيانًا، ولا تسبب إزعاجًا، بقدر ما هي مؤنسة لنا. – هذا غريب فعلًا! فسبب زيارتي لك هذا المساء؛ لأُقدّم لكم اعتذاري عمّا نسبّبه لكم من إزعاج، اشتكى منه أغلب مَنْ في هذه العمارة. – لا نشعر بأيِّ نوعٍ من الإزعاج أبدًا؛فما يُحرجك أنت، لا يبدو لنا كذلك. فنحن لم نُرزق بأطفال، ونعيش حالةً من السكون الدائم؛ فضاء البيت..الموجودات من حولنا، وكل شيءٍ في هذا البيت.. هذه الأشياء التي تراها بقيت كما هي، منذ أن شغلت حيّزها، كنا دائمًا نتُوقُ أن نراها موزّعةً في أمكنةٍ أخرى، ودائمة التغيّر.. بدونا – ياجارنا – نعشق فوضى المكان، ففيه نرى جمال الأشياء! – ألِهذا الحدّ؟ – بلى، تصوّر أن زوجتي تتعمّد تغيير أماكن الموجودات كل يوم؛ حتى لا نشعر بالرتابة والسأم في غياب الأطفال وأفعالهم. كانت تتمنى دائمًا بعد رجوعها من العمل، أن تفاجأ بهذا التمثال مقلوبًا، وهذه المرآة مكسورة، وتلك الكتب مبعثرةً على المقاعد… كانت دائمًا تقول مبتسمةً ساخرةً: أعشق هذا النوع من “الفوضى المؤنسة!”. شرِبتُ قهوتي ببطء، وبين رشفة وأخرى وجدتني أتأمّل كلماته وموحياتها، وأقرأ ما بين السطور من معانٍ، وأُفكّر في حكمة الخلق، ومذاهب الناس في عشقهم؛ لقد أشعرتني كلماته بعمق المأساة التي يعيشانها؛ فتسلّل إلى قلبي حزنٌ شفيف، حاولت أن أُطبق أجفانه ببضع آياتٍ كريمةٍ، ثم غادرته وكان التلفاز أمامنا قد شرع ببثِّ أولى صوره..