في الإعاقة والمعاقين وإبداعاتهم المختلفة

في الإعاقة والمعاقين وإبداعاتهم المختلفة

بقلم :: فتحي الحبّوبي

أيها القاصـــــدُ قومـــــاً*** مــــلأوا الدنــــــيا مآثر
ورثوا المجـــــــــدَ تراثاً*** كــــابرا مــــن بعد كابر
في جبــــين الـدهر فخرٌ*** ولهـــم تُنمــــى المفاخر
الشيخ عبد الحميد المهاجر
ما إن باحت منافسات بطولة الألعاب البارالمبية (2016)التي أقيمت بالبرازيل بأسرارها، حتّى أهتزّت الجماهير العربيّة  فرحا وانتشاءً بالنتائج المشرّفة والباهرة (1) التي مكّنتهم في محفل دولي مهيب من رفع راياتهم الوطنيّة  23 مرّة، و حصد 74 ميداليّة من المعادن الرفيعة الثلاثة.  وهو ما أثلج الصدور، مشرقا ومغربا، بفضل أبطال (عمالقة) من ذوي الحاجات الخاصّة ممّن يملكون روح التحدّي الوثّابة  التي حوّلت محنتهم  إلى منحة وبليتهم  إلى عطيّة مجزية. ولكن رغم هذا البرهان الرائع و الدليل الساطع على قيمة وأهمّية هذه الفئة على المستوى الدولي فإنّه- و للأسف الشديد- لا يزال  البعض منّا، على المستوى المحلّي/الوطني، ينظر إليهم  نظرة دونيّة  ترضي كبريائه وغروره، وتعبّر عن تضخيم غير مبرّر لذاته المريضة. فهؤلاء حقّقوا ما لم يحقّقه ذَوُو الأَجْسَامِ  كاملة الأعضاء أي الأسوياء، أو  من يعتقدون أّنّهم كذلك، فيما هم ليسوا كذلك على أرض الواقع  بحكم النتائج الهزيلة ”المقرفة” التي يحقّقونها عبر كلّ مشاركاتهم. وهو ما يثير  التساؤل والإستغراب لأنّ ذلك قد يعدّ أكبر العيوب لديهم كما قال أبو الطيّب المتنبي: (ولست أرى في عيوب الناس عيبا    كنقص القادرين على التمام). فهم قادرون ولكنّهم في موقع العجزة  الذين وضعوا حاجزا سميكا بينهم وبين النجاح بحيث يصدق فيهم  قول (أبو تمّام):
(قَد يُنعِمُ اللَهُ بِالبَلوى وَإِن عَظُمَت وَيَبتَلي اللَهُ بَعضَ القَومِ بِالنِعَمِ )، مثلما يصدق في بعض النّاس قول حسّان بن ثابت: (لا بأسَ بِالقَومِ مِن طولٍ ومن عِظَمٍ جسمُ البِغالِ وَأَحلامُ العَصافيرِ).

ذلك ما دعاني إلى التطرّق للحديث عن الإعاقة و المعاقين منذ ما قبل ظهور الديانات، حتّى ولو لم يأتي قديما ذكر الإعاقة بلفظها لغياب وجود المصطلح آنذاك. فأنا لا تهمّني بالأساس ولا تستهويني  مختلف الإختصاصات الرياضيّة عموما ولا نتائج مسابقاتها بقدر ما تهمّني، أوّلا وأخيرا، معنويات من حقّق النتائج المبهرة من ذوي الإعاقة الذين أنحني إجلالا وتقديرا لهم وليس شفقة عليهم. لا سيّما وأنّهم  لا يحظون من قبل الإعلام والجماهير بنفس القدر من الاهتمام والدعاية التي يحظى بها الأخرون. كما أنّ  الإمكانات الموضوعة على ذمّتهم لا تُوازن بالإمكانات الموضوعة لنظرائهم من الأصحّاء/الأسوياء، بما قد يعدّ  بمعنى من المعاني ضربا من الغباء البيّن لمن يعودون له بالنظر على المستوى السياسي لا على المستوى الرياضي والفنّي.

في سياق متّصل، فإنّ اللّافت للإنتباه، هو أنّ تعريف مصطلح الإعاقة، رغم أنّه  يعتبر حديثا نسبيّا؛ لأنّه استخدم لأوّل مرّة سنة1915 لوصف الأطفال المشلولين ثمّ لوصف الأشخاص ذوي العجز، الذين يعرّفون اليوم في الغرب بذوي الإحتياجات الخاصّة،
 فإنّه  بات من المؤكّدّ اليوم ضرورة إعادة صياغته من جديد ليكون في علاقة متينة بطريقة مواجهة الإنسان ،كائنا من كان، للصعوبات  التي تعترضه في حياته ونجاحه من عدمه في تجاوزها والإنتصار عليها. وعندئذ، سينسحب المصطلح، على جميع النّاس بمن فيهم من له القدرة على الفعل ولكنّه لا ينجزه، وليس على فئة قليلة منهم فحسب كما هو الحال راهنا.

 فاليوم بات من نافلة القول التأكيد على حقيقة لا يجادل فيها أحد غير الجاحدين، وهي أنّ إعاقة الإنسان الحقيقيّة  ليست  ما يتبادر إلى أذهاننا، في الأغلب الأعمّ، من أنّها  ترجمان لعجز بدنيّ نتيجة لعاهة في الجسم تشلّ حركة عضو من الأعضاء أو اكثر، بل هي تحديدا، إعاقة الروح كما العقل الذي تصيبه عطالة عن التفكير وعجز عن الفعل والنشاط، بما يعني شلّ كلّ أعضاء الإنسان دون استثناء لتحصل -قطعا- ما أسمّيه بالإعاقة الشاملة. وهي لعمري أخطر الإعاقات، بل هي أمّ الإعاقات؛ إنّها إعاقة ذهنيّة تفوق كلّ الإعاقات البدنيّة لأنّها تؤدّي بالضرورة إلى  الجمود والتكلّس والميل الشديد إلى التواكل والتكاسل ولعن الإقدار وتحميلها ما لا تحتمل، لا بل و شكوى الزمان وأهله وشيطنة النّاس أجمعين، حاضرهم وغائبهم دون تمييز. فيما أنّ واقع الحال إنّما هو خلاف ذلك تماما كما جاء في مقولة، اشتهر بها الإمام الشافعي، رغم أنّها على الأرجح للصاحب ابن لنكك :

نعِيبُ زَمَانَنَا وَالعَيْبُ فِينَا ** وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا

ونَهجُو ذَا الزَّمَانَ بِغيرِ ذَنْبٍ ** وَلَوْ نَطَقَ الزَّمَانُ لَنَا هَجَانَا

نعم نحن الحقيقون والأولى بالذمّ وليس الظرف الذي نعيشه ولا هم الآخرون أبدا. فمهما كانت صروف الدهر، ومهما طحنتنا الأيام بكلكلها، ومهما كان الطوق مشدّدا حولنا، تبقى لنا مساحة، مهما كانت ضيّقة، للتحرّك في حدودها لمغالبة الزمان بعزيمة  أمضى من السيف، بل و التوق إلى التحوّل إلى مارد عملاق يتجاوز المعوقات بفضل،  لا فقط الإرادة القويّة  التي لا تقهر باعتبارها من إرادة لله (إذا الشعب يوما أراد الحياة  فلا بد أن يستجيب القدر) ، بل  وكذلك بالإصرار والصبر و الإيمان بالذات رغم الشعور بالضعف وأحيانا بالعجز، وعدم الاستسلام لمشاعر الإحباط التي تلحّ علينا. يضاف إلى ذلك  حسن توظيف الإمكانات القليلة المتوفّرة مهما كانت شحيحة بما يضمن تخطّي جميع الصعاب و الحواجز والعراقيل مهما تنامت وعظمت.

وهو ما قد يكون عناه الشاعر محمود درويش متوجّها بالخطاب إلى المواطن الفلسطيني المحاصر في غزّة حيث قال:

حاصر حصارك لا مفرّ … اضرب عدوّك لا مفرّ
سَقَطَتْ ذراعك فالتقطْها …وسقطْتُ قربك فالتقطْني
واضرب عدوّك بي
فأنت الآن..حرٌّ.. وحرٌّ.. وحرٌّ

لذلك فلا عجب أنّ  تزخر مصادر التاريخ القديم  والوسيط  كما الحديث والمعاصر- وهو ما سنقف عليه لاحقا- بأخبار ونجاحات وإبداعات من نفردهم في معاجمنا ونخصّهم بصفات المعاقين- لأنّهم يعانون من صور ظاهريّة للعجز- وما هم كذلك في الحقيقة والواقع. وذلك على الرغم من أنّ المجتمعات المختلفة، منذ  القدم وقبل أن تظهر الديانات السماويّة (2)، تنظر إلى ذوي الإعاقة بازدراء وتبخسهم حقوقهم وتنبذهم وتسلبهم حتّى مجرّد حقّهم في المواطنة(3). كما أنّها تعاملهم معاملة قاسية تصل حدّ الإلقاء بهم في الأنهار في تماه وتماثل تامّ  مع ما سيفعله بهم النازيون لاحقا  بتأثير من فلسفة القوّة” النيتشويّة” المتأثّرة بدورها بالداروينيّة أي التطوّر عبر الاصطفاء الطبيعي . حتّى أنّ لفيفا من الفلاسفة والمفكّرين القدامى عبّروا بوضوح عن معاداتهم لشريحة “المعاقين” ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر أفلاطون وأستاذه سقراط. فقد كان أفلاطون(427ق.م – 347 ق.م) يدعو إلى عدم السماح لذوي الإعاقة بالزواج  ونفيهم خارج الدولة حتّى لا تضعف. وذلك رغم علمه بمرارة المنفى الذي قال عنه أستاذه سقراط لحظة الحكم عليه بالإعدام (أنّه يقبل هذا الحكم بدلا من الهروب إلى المنفى). لذلك فلا غرابة أن نقرأ في كتاب الجمهورية الفاضلة : (أن الأشخاص ذوي الإعاقة ضرر على الدولة لأنّ وجودهم يعيق التقدّم) . ولا غرابة أيضا أن يعتبر سقراط  ( 469ق.م – 399 ق.م) أنّ (قيمة الإنسان إنّما تقدر بمقدار صلاحيته على أداء وظيفته على الوجه الأفضل).

ولعلّه بجدر بي في نهاية هذه العجالة التذكير بعدد قليل من أسماء المشاهير من ذوي الإعاقة الذين تالّقوا بشكل لافت في مجالات نشاطاتهم  فملؤوا الدنيا نجاحا ومجدا وشغلوا الناس بمنجزاتهم. ففي الحقل الأدبي نذكر القاصّة الشهيرة ”هيلين كيلر” مؤلّفة “قصّة حياتي” التي كانت ذات ثلاث إعاقات فهي كفيفة، صَمَّاءُ وخَرْساء، ومع ذلك فقد حصلت على الدكتورا وطبّقت شهرتها الآفاق، تماما كما الدكتور طه حسين الذي سلك طريقا جديدا للبحث حذا فيه حذو المنهج الغربي، فأحدث ثورة في الأدب العربي بجرأته في طرح مواضيعه.ممّا بوّأه رغم محاولات التشويه أن يصبح عميدا للأدب العربي وهو كفيف البصر. وأمّا في المجال العلمي والتكنولوجيات، فنذكر ستيفن هوكنج، الذي بالرغم  من معاناته من إعاقة مزدوجة هي البكم والشلل، فقد اكتشف الثقوب السوداء في الكون وإشعاعاتها ، كما نذكر ماركوني، الذي رغم أنّه أعور العين فإنّه إخترع اللاسلكي، ونال جائزة نوبل في الفيزياء، ونذكر الرحّالة ماجلان مكتشف كرويّة الأرض وقد  كان أعرجاً. وأمّا في مجال الكيمياء وعلم الأحياء فنذكر لويس باستور الذي رغم إصابته بمرض شلل الأطفال، فانّه أنتج الأمصال الواقية من التيفويد والتهاب النخاع الشوكي.
وأمّا في المجال السياسي فنذكر فرانلكين روزفلت المصاب بالشلل والذي أصبح رغم ذلك الرئيس الأمريكي الوحيد الذي انتخب أربع مرات متتالية. وإن ننسى فلا ننسى عبقريّة بتهوفن الموسيقيّة وهو الأصم، وعبقريّة الجاحظ  الأدبيّة، وهو الذي كان يعاني من الشلل النصفي ومن مرض النقرس. فلو كان هؤلاء المشاهير الذين نعتبرهم معاقين، أسوياء فماذا عساهم يقدّمون للعالم أكثر ممّا قدّموه. أليس من الجائز، لا بل من الأرجح، أن لا يقدّموا شيئا مثلما لم يقدّم أغلب الأسوياء أيّة خدمة للبشريّة. سؤال سأظلّ أنتظر الإجابة عنه حتّى أظفر بها. 

هوامش

1- رصيد العرب من الميداليات البارالمبية هو 74 ميدالية في المعادن الثلاثة.منها 23 من الذهب، 24 من الفضّة، و47 من البرنز. وهكذا تكون  حصيلة الرياضيين العرب من ذوي الاحتياجات الخاصة تفوق  حصيلة  نظرائهم من الأصحّاء في أولمبياد2016 ب 60 ميدالية، وتكون حصيلة ذوو الإعاقة في دورة واحدة، تقترب من حصيلة الأصحّاء  على مدى قرن كامل (108 ميداليّة).

و تحتلّ تونس في هذه الدورة صدارة الدول العربية، فيما تحتل المركز الواحد والعشرين عالميّا برصيد 19 ميدالية، منها 7 ذهبية و6 فضية و6 برونزية.

2 دعت الديانات السماويّة الثلاث  إلى رعاية ذوي الحاجات الخاصّة و الإشفاق علىهم والإحسان إليهم، واعتبرتهم هبة من الله. وعلى سبيل المثال، فإنّ الإسلام دعا للعناية بذوي الأعذار / الضعفاء، كما يسمّيهم ومنحهم حقوقهم كاملة. كما نظر إليهم بعين رحيمة نلمسها في العناية الإلهيّة بهم من خلال الدعوة إلى الرفق  بهم ودمجهم في المجتمع ونزول أيات وأحادث نبويّة عديدة  في شأنهم ومنها الآية الكريمة   {لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ …} (النور: 61).  ويكفي أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قد منع التسوّل عن ذوى العاهات وفرض لفائدتهم راتبا في بيت  المال ، حماية لهم من ذلّ السؤال. كما أعطى بعض الخلفاء اللاحقين  كل مقعد خادما ، وكل ضرير قائدا…

3طالب حكماء رومان وإغريق بضرورة تشكيل جمعيات مهمّتها البتّ في مدى صلاحية الفرد للمواطنة من عدمها (بهدف حرمان ذوي الإعاقة من حقّ المواطنة).

 

 

 

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :