استطلاع : منى توكا شها
بعد أربعة عشر عامًا على اندلاع ثورة 17 فبراير، لا تزال ليبيا تواجه تحديات كبيرة، بين من يرى أن البلاد تتقدم نحو الاستقرار والتنمية، ومن يعتقد أن الجراح لم تندمل بعد، وأن المصالحة الوطنية لا تزال بعيدة المنال.
خلال هذه السنوات، شهدت ليبيا انقسامات سياسية حادة، وصراعات مسلحة، وأزمات اقتصادية خانقة، مما جعل الطريق نحو بناء الدولة محفوفًا بالصعوبات.
ومع احتفال الليبيين بالذكرى الرابعة عشرة للثورة، يطرح السؤال نفسه: هل تجاوز الليبيون خلافاتهم وقرروا بناء وطنهم؟ أم أن الماضي لا يزال حاضرًا بقوة، يعيق كل محاولات النهوض؟
في هذا الاستطلاع ، نستعرض آراء مختلفة تعكس تباين المواقف بين من يؤمن بأن ليبيا بدأت في تجاوز أزماتها، ومن يرى أن البلاد لا تزال عالقة في دوامة الصراعات والانقسامات.

بين التفاؤل والتشاؤم: هل ليبيا تتعافى؟
” الجراح لم تندمل بعد والثورة كانت خداعًا للشعب“.
ترى المستشارة القانونية فاطمة درباش أن الليبيين لم يتجاوزوا ماضيهم بعد، وأن المصالحة لم تتحقق بسبب غياب العدالة، مؤكدة أن بعض الفئات لا تزال تعاني بينما يستفيد آخرون من الأوضاع الحالية.
وتقول درباش: “ما زالت عديد الوجوه القديمة في المشهد، وأولياء الدم يرون الجناة أحرارًا بفضل قرارات العفو، بينما المتضررون لم يحصلوا على حقوقهم. حتى جبر الضرر لم يكن عادلاً، إذ رأينا تعويضات تُدفع لمن فروا خارج البلاد، بينما ضحايا الحرب الحقيقيون تُركوا لمواجهة مصيرهم وحدهم.”

وتضيف بغضب: “مادامت جرعات الكيماوي ناقصة، ونتسول العلاج عبر السوشيال ميديا، فللأسف الثورة تم خداع الشعب بها فقط ليصل السُرّاق إلى اليخوت، وتُقام الحفلات بأرزاق الليبيين. لم تكن هناك ثورة من أجل العدالة، بل مجرد إعادة توزيع للسلطة بين نخب جديدة استغلت آمال الناس ومعاناتهم.”
وترى درباش أن غياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية يؤكد أن ليبيا لم تحقق أهداف الثورة، وأن المصالحة الوطنية تبقى مجرد شعارات ما لم تتحقق المساءلة الفعلية وتُسترد الحقوق المنهوبة.
لا أرى أننا تجاوزنا الماضي بعد.
يتفق الكاتب الصحفي مالك المانع مع وجهة نظر درباش، ويرى أن الليبيين لم يصلوا بعد إلى مرحلة المصالحة الحقيقية، لأن الأوضاع السياسية لا تزال متأزمة.
“لا يزال الليبيون غارقين في صراعات السياسيين، ولا يوجد مشروع واضح يهدف إلى تحقيق المصالحة الحقيقية. استمرار حالة الانقسام والاقتتال الداخلي يعزز هذا الواقع، ويجعل بناء الدولة المدنية أمراً صعباً.”

ويعتقد المانع أن التغيير لن يحدث إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية لإنهاء الانقسام والعمل على توحيد المؤسسات الوطنية.
ليبيا تتقدم رغم الصعوبات، الليبيون تجاوزوا جراحهم.
على النقيض من الآراء السابقة، ترى المعلمة مريم إبراهيم أن الليبيين بدأوا بالفعل في تجاوز جراحهم، وأن هناك تحسنًا ملحوظًا في بعض المجالات.

“من الجميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، لكن الأجمل أن يرى وطنه ينهض رغم الألم. نعم، مرت ليبيا بأيام صعبة، لكن اليوم نرى التحسن في عدة مجالات، سواء في البنية التحتية أو في مستوى التعليم والأمن. الاحتفال بالعيد الرابع عشر للثورة هو بمثابة لملمة لبقايا الجراح، فهو عيد الأمن والإعمار والتطور.”
وترى مريم أن الوطن ليس مجرد بقعة تراب، بل تاريخ وحضارة، وأن المستقبل سيكون أفضل إذا استمر العمل من أجل التغيير.

بين التحديات والأمل في مستقبل أفضل، الطريق لا يزال طويلاً.
أما الناشط المدني محمد رمضان، فيرى أن ليبيا ما زالت تواجه تحديات كبيرة تحول دون تجاوز الماضي، ويقول:”رغم الجهود المبذولة لتحقيق الاستقرار، فإن الانقسام السياسي ما زال قائماً، والعنف لم ينتهِ تماماً.
الفساد مستشرٍ، والتدخلات الخارجية تلعب دوراً في تعقيد المشهد.”
ويشير إلى أن هناك محاولات لتحسين الأوضاع، مثل الدعوات للوحدة الوطنية والاستثمار في البنية التحتية، لكنه يؤكد أن هذه الجهود بحاجة إلى دعم سياسي قوي حتى تؤتي ثمارها.
انقسام يعرقل المصالحة، ليبيا تواجه تحديات كبيرة في مسار بناء الدولة.
بعد أربعة عشر عامًا على ثورة 17 فبراير، لا يزال المشهد الليبي معقدًا ومنقسمًا بين الأطراف السياسية والمجتمعية. وتؤكد الكاتبة عائشة الأمين أن بعض الليبيين قد تجاوزوا الماضي وبدأوا في بناء وطنهم من خلال مشاريع اقتصادية واجتماعية، وجهود توحيد المؤسسات الوطنية، لكنها تشير إلى أن هذه الجهود تواجه تحديات حقيقية بسبب غياب الأرضية الخصبة التي تدفع تلك المشاريع نحو النجاح.

وتعتبر أن أكبر التحديات تتمثل في غياب قاعدة دستورية واضحة، ما يعرقل بناء دولة ذات معايير ثابتة.
كما توضح أن الانقسام السياسي الفعلي بين حكومتي الشرق والغرب يعمق الانقسامات الجغرافية والعقلية، ما يؤثر سلبًا على تقدم البلاد.
علاوة على ذلك، تلفت إلى التحديات المتعلقة بالحريات العامة وظهور منطق القوة مجددًا على الساحة الليبية، مشيرة إلى التضييق على المجتمع المدني والانتهاكات المستمرة للقوانين الدولية. وتعبر عن قلقها من التدخلات الإقليمية والدولية التي أسفرت عن مسارات سياسية لم تُنفذ بفعالية، ما أدى إلى تراجع الثقة بين الأطراف الليبية والدولية.
ورغم هذه التحديات، تؤكد الأمين أن الأمل يبقى قائمًا في قدرة الليبيين على تجاوز ماضيهم والعمل معًا لبناء دولة حديثة ومستقرة.

الأمل لا يزال قائماً : رغم الجراح، نحن نتحرك نحو المستقبل.
الناشطة المدنية جميلة محمد تؤكد أن الليبيين بدؤوا فعليًا في تجاوز الماضي، مشيرة إلى أن هناك جهودًا تُبذل على عدة مستويات لإعادة بناء البلاد.
“صحيح أن ليبيا مرت بسنوات صعبة، ولكن هذا لا يعني أن المستقبل سيكون مظلمًا. نرى الآن محاولات جادة لتعزيز الاستقرار، ودعم المشاريع الشبابية، وتحسين البنية التحتية.
لا تزال هناك مشاكل، لكن الأهم أن الإرادة موجودة.”
وترى جميلة أن المصالحة تحتاج إلى خطوات عملية، مثل تعزيز العدالة الاجتماعية، ومحاسبة الفاسدين، ودعم المبادرات المحلية التي تسعى لتوحيد الليبيين.
الجراح لم تندمل بعد.

الآراء التي ترى أن ليبيا لم تتجاوز ماضيها.
أبوسعده علي عمر : “التدخل الأجنبي اختطف الثورة“.
في بداية حديثه، يقول الناشط والباحث السياسي أبوسعده عمر:”كانت ثورة 17 فبراير 2011 ثورة حقيقية أنهت 42 عامًا من الدكتاتورية. وكان الشعب الليبي يأمل في التغيير الحقيقي. ولكن التدخل الأجنبي مهد الطريق لاختطاف الثورة من قبل أفراد لا طموح لهم على المستوى الوطني في خدمة رعاة أجانب. واليوم لا يزال الشعب الليبي الجريح والمضطرب ينتظر ثمار هذا التغيير.”
“الأزمات المستمرة تقف عائقًا أمام المصالحة“.
أما الناشطة السياسية زمزم أحمد موسى، فقد تناولت الموضوع من زاوية أخرى، إذ قالت: “الأعوام كفيلة بلملمة جراح وأوجاع الماضي وطيّها. الشعب الليبي أدرك حجم المعاناة وذاق مرارة الحروب والتهجير. فلا بيت يخلو من فقد أو تهجير. الكل ارتشف كأس الأزمات المتتالية من نقص في السيولة وتأخر المرتبات وغلاء الأسعار، والآن بعد مرور 14 عامًا أصبحت تظهر سنابل التغيير وتزدهر في بعض المدن،والبعض الآخر يزرع ليحصدها في القريب العاجل.”
الليبين إستمرأوا الألم وتعودوا الوجع واستكانوا إليه رغم شدته

الكاتب الصحفي محمود السوكني يؤكد لم يتجاوز الليبيون جراحهم للأسف ، بل أنهم إستمرأوا الألم وتعودوا الوجع واستكانوا إليه رغم شدته . حدث فبراير إفتقد للقيادة الوطنية التي توظفه على نحو يحقق أهدافه المعلنة

واتاحت الفوضى العارمة التي صاحبته إلى إنتشار فظيع للسلاح لم نتعوده افرز جماعات تغولت وفرضت وجودها وتحولت إلى أدوات تخدم مصالح الغير إلّا الوطن ! لقد أسقط فبراير النظام لكنه برعونة أسقط الدولة معه . نحن أحوج ما نكون إلى ثورة تصحيح تحقق المباديء التي جاءت فبراير من أجلها .
“الشعب الليبي لم يتجاوز خلافاته“.
من جهته، يعتقد الدكتور محمد بن محمد أن الشعب الليبي لم يتمكن من تجاوز خلافاته حتى الآن. حيث قال:
“عندما يطلع أي شخص مهتم على التاريخ السياسي الليبي، يجد أن الشعب الليبي مر بأحداث عصيبة وصراعات داخلية متمثلة في حروب أهلية قُتل فيها الكثير. ولكن رغم كل ذلك، استطاع الشعب الليبي تخطي خلافاته من أجل الوطن. وفي وقتنا الحالي، أعتقد أن الشعب الليبي تشظّى إلى العديد من الفرق بفعل أحداث فبراير 2011.
وهي أحداث ليست كسابقاتها من صراعات في التاريخ السياسي الليبي.”
ويتابع قائلاً: “الفرق التي ذكرتها واضحة في المجتمع الليبي، وأنا أرى أن الشعب الليبي لم يتجاوز خلافاته ونسيان الماضي الأليم الذي تسبب في جراح عميقة.
الاحتفال بذكرى فبراير وإن كانت حقًا أصيلًا لفريق معين من الشعب الليبي، إلا أنني أراها تزيد من تعميق الخلافات، لأن هناك فريقًا آخر من الشعب، والذي لا نستطيع تجاهله، يراها استفزازًا لهم. أما بالنسبة لبناء الوطن، فهو أمر وارد جدًا في مخيلة كل فرد من الشعب، بجميع فرقه، لأنه لا يوجد ضغينة تجاه الوطن أبدًا. لكن المعضلة ليست في الشعب بل في الطبقة أو الفئة الحاكمة التي تمنع أي تقدم من أجل مصالحهم.”

الآمال والتحديات في الجنوب : “الجنوب لا يزال يعاني، لكن الأمل موجود“
وفي الجنوب الليبي، حيث لا تزال العديد من المناطق تعاني من الإهمال، يعرب الناشط المدني عبدالله بن يوسف عن رؤيته للوضع في سبها وبقية المناطق الجنوبية، حيث قال:”أقطن في سبها وأرى كيف يعاني الجنوب من الإهمال. لكن مع ذلك، بدأت بعض المؤشرات الإيجابية تظهر، مثل تحسن الوضع الأمني وتوحيد المصرف المركزي. أتمنى أن تكون 2025 سنة الانتخابات، حيث يمكن للمواطنين التعبير عن إرادتهم والمساهمة في بناء مستقبل أفضل.
عبد الحكيم عبد الهادي: “القوات المسلحة هي الأمل لضمان الأمن والمصالحة الوطنية“
أكد عبد الحكيم عبد الهادي، المرشح للمجلس البلدي سبها، أن ليبيا تمر بمرحلة معقدة منذ أحداث فبراير وسقوط النظام الجماهيري، مشيرًا إلى أن السنوات الأربعة عشرة الماضية كانت مليئة بالفوضى، والحروب، والانقسامات، إلى جانب تدهور الاقتصاد الليبي وانخفاض قيمة الدينار أمام العملات العالمية. وأضاف عبد الهادي: “عجزت جميع الحكومات والأجسام المنتخبة عن وضع خارطة طريق واضحة لبناء ليبيا الجديدة، أو تحقيق مصالحة وطنية حقيقية تضمن جبر الضرر الذي لحق بكافة الليبيين، مهما كانت توجهاتهم.”
وتابع عبد الهادي: “رغم كل هذه التحديات، برز مشروع حقيقي وبارقة أمل ولدت من رحم المعاناة وسلسلة من الاغتيالات، ألا وهو مشروع القوات المسلحة العربية الليبية. هذا المشروع، الذي يرى فيه مختلف الليبيين الأمل بعد الله، يضمن تأمين الحدود، وفرض الأمن، وتحقيق المصالحة الوطنية، إلى جانب كونه رادعًا لكل من يحاول الاعتداء على الوطن.”

واختتم عبد الهادي حديثه بالتأكيد على أن بناء دولة ذات سيادة لن يتحقق إلا بالالتفاف حول قيادة القوات المسلحة العربية الليبية، مشددًا: “لقد جربنا جميع الاتفاقات، والحوارات السياسية، واللجان الاستشارية، لكنها لم تفعل شيئًا سوى إطالة عمر الأزمة.”
الختام: بين التفاؤل والتحديات.
في النهاية، تظل ليبيا في مفترق طرق بين من يعتقد أن البلاد بدأت بالفعل في تجاوز ماضيها المؤلم، وبين من يرى أن الجراح لم تلتئم بعد. وفي هذا السياق، يظل المستقبل مفتوحًا على احتمالات عديدة، يعتمد تحقيقها على قدرة الليبيين على تجاوز خلافاتهم والعمل من أجل بناء وطنٍ موحد ومستقر.