في هون استعدت طفولتي

في هون استعدت طفولتي

هون :: ليلى المغربي

عرس هون في مهرجان الخريف / ربيع الصحراء .

لا أخفي سراً حين أقول أنني من محبي فصل الخريف ، ربما لأنني من مواليد هذا الفصل أو لأن مزاجي المتقلب يشبهه كثيراً ، لكن لنعترف أننا جميعاً لنا مزاجنا الخاص ويتقلب حسب الأجواء المحيطة ، لهذا لا أخجل من اعترافي هذا .

حين تلقيت الدعوة للمهرجان شيء بداخلي تحفز وأكدت رغبتي بالحضور دون أي توقعات لما سيكون عليه ، رغم أنني لم يسبق أن زرت مدينة هون ولا أعرف شيئاً عن المهرجان سوى اسمه الذي يتكرر سنوياً على مسامعي وأرى بعض الصور له عن مناشط فنية وتراثية وثقافية ، تحمست للحضور وكان وصولنا لهون قبل بدء فعاليات المهرجان بعشر دقائق ، استقبلنا الصديق العزيز المصور الفوتوغرافي  كمال أبوزيد وهو أحد المنظمين للمهرجان ، دخلت أحمل الكاميرا في يدي وسط منتزه الفوارة السياحي الذي احتضن الافتتاح والختام وعدة أنشطة أخرى من ضمنها عرض الفروسية وحفلات موسيقية ساهرة كل ليلة .

حفل الافتتاح كان تراثيا بامتياز وأبرز جهود فريق ضخم عمل بصمت لنشهد صوراً رائعة تخلب القلوب وتضع المصورين في حيرة مع كاميراتهم لالتقاط المشاهد الجميلة من عروض الرقصات والألعاب الشعبية للكبار والصغار ، والأغاني التي ترددت على مسامعنا منذ الطفولة بالإضافة لأغنية الافتتاح التي كتبها الشاعرصالح عباس ابن هون ولحنها وغناها مدير المهرجان الفنان سعد حمودة رفقة أطفال هون ، كما شارك في الافتتاح عدد من الضيوف من عدة مدن طرابلس وسمنو وسبها وغات ومرزق قدموا فيها عرض للملابس والعادات التقليدية .

في نهاية اليوم الأول لم انتبه للراحة التي سكنت نفسي وأنني ودعت القلق والأرق على عتبات هون ، إلا حين جلست في حديقة الفندق أستنشق الهواء النقي وأرتشف كوب الشاي الأخضر المعد على الفحم .

في صباح اليوم التالي بدأت متابعتي لأنشطة المهرجان من مسرح الشهداء حيث تم تكريم عدد من رواد وأعلام مدينة هون في ملتقى الخريف الثقافي ورعاية جمعية ذاكرة المدينة ، من بين رواده المكرمين العديد من الكتاب والأدباء والشعراء والقصاصين وأساتذة الجامعات من شتى العلوم والدراسات ، ولم يغب عن بال المنظمين تكريم ذكرى ابن هون الراحل الشاعر الحبيب السنوسي الذي غاب بجسده ولكنه كان حاضراً بسيرته ومساهماته على الساحة الثقافية وللمهرجان والملتقى الثقافي فيه ، وبوعد من جمعية ذاكرة المدينة بتخصيص دعم ومساحة مستقبلية للصحفيين والموهوبين في الكتابة ولم يتمكنوا من نشر مؤلفاتهم ، أسماء المكرمين عديدة ومساهماتهم في الساحة العلمية والثقافية كبيرة ، وعلى هامش الملتقى عُرضت بعض مطبوعاتهم ومؤلفاتهم للإطلاع عليها .

خرجت من الملتقى مسافة قريبة لحضور وتصويرمعرض التراث الأصيل لمدينة هون بتنظيم من الأستاذة زهرة الخير ، قدمت في هذا المعرض بمشاركة عدد كبير من نساء وشباب هون كل ما يتعلق بتاريخ المدينة من ملابس وصناعات يدوية لم نعد نرى معظمها الآن .

أما عشية اليوم الثاني فقد سُنحت لي فرصة تصوير عروض الفروسية ، وهذه الفرصة لم تكن متاحة لي ببساطة لأنني سيدة ولا أجد مثل هذه الفرصة لألتقط صوراً للخيل وفرسانها يستعرضون ركوبها وهي تخب الرمل وتثيره في مشهد مثير للنظر لجماله ورهبته ، التصوير هنا مهمة صعبة لأن حركة الخيل سريعة والفارس يقود حصانه لينتزع اعجاب الحضور ويتفاخر بقدراته على قيادة حصانه بشكل لافت ، سررت أنني تمكنت من الحصول على مشاهد ولقطات جميلة لهذا العرض كتجربة أولى لي وتأتيني في مدينة هون .. وقتها شعرت أن هون مدينة الحظ لي ..

رافق عرض الفروسية عرض للكرمود وهو الجمل الذي يحمل الهودج ويركبه العرسان ، وأمسية للشعر الشعبي لم أتمكن من متابعتها فقد غادرت منتزه الفوارة مسرعة نحو قاعة الحرية حيث يعرضون فيلماً من تأليف وتمثيل وإخراج وتصوير أبناء وبنات هون في فقرة سينما الخريف ، فيلم “المرشد الروحي ” عمل فني مستوحى من قصة كتبتها ميسون السنوسي حبيب وقدمها شباب من هون ، حمل الفيلم رسالة هامة وهي نبذ القوة والعنف لحل المشاكل واختيار بدائل سلمية فنية وثقافية أياً كانت الهواية التي تمكنك من تفريغ الطاقة السلبية والغضب والملل ، بالنسبة لي الرسالة الأهم كانت الفيلم نفسه واشتغال كوكبة من الشباب عليه واهتمامهم بالثقافة والفن كوسيلة لايصال صوتهم .

في صباح يوم الجمعة وهو اليوم الثالث للمهرجان اتجهت إلى دار بركوس للتراث قادنا إليها شاب من مصراته يقيم في نفس الفندق معي وزميلاتي وزملائي ، استقلبنا الدكتور أحمد بركوس القائم على هذه الدار بتقديم التمر واللبن ثم أرشدنا في جولة داخل بيت قديم أشرف على إعداده ليرينا كيف كانت الحياة قديما بأدواتها وبساطتها ونقاوتها ، انتقلنا من دار بركوس لإحدى السواني ( المزارع ) القريبة التي كانت تحتفي بتجسيد الحياة اليومية للمزارع ، من تقشير القمح ( الدرس ) وجرشه وإعداد الخبز إلى جني ثمار التمر والاهتمام بالنخيل وسط عروض غنائية راقصة للأطفال أبهجت المكان وملئته بالفرح والتفاؤل وعروض أخرى لملابس تقليدية وتيجان تصنع يدوياً من سعف النخيل زينت جبهات الأطفال والضيوف .

عشية الجمعة كنا على موعد مع الألعاب الشعبية على سفوح الرمال في منطقة الحاج اعمر ، مشهد الرمال البيضاء الناعمة يثير الدهشة والخوف في آن واحد ، خصصت مساحات للألعاب أهمها القفز العالي الذي تحمس الشباب له وكلما زاد ارتفاع القصبة زاد تحدي المشاركين وحماسة الجمهور ، فيما سيارات الدفع الرباعي والتي تنتظر موعدها رابع أيام المهرجان وأخره ، لم تطق صبراً فدخلت الرمال لتثيره وتنثره حولها في استعراض للسائقين يبدون فيه براعتهم في القيادة على الرمال ، بعضهم نجح وأخرون غرقت سيارتهم وغرقوا في خيبة نفضوها عنهم دون أن يعلق منها شيء في نفوسهم كالرمال التي أثاروها لا تترك أثراُ ولا تعلق إلا في أرضها .

أغرتني رمال الصحراء رفقة الصديقة الشاعرة بشرى الهوني والزميل هيثم الترهوني بخوضها بعد أن شاهدنا نخيلاً شامخاً بدا قريباً للناظر إليه ، كنا نسير حفاة على الرمال الناعمة وأنا التي لا أنزع حذائي حتى في منزلي فوق السجاد أخصص حذاء لارتدائه لأنني انزعج من ملامسة الرمال ، في هون سرت فوق الرمال دون انزعاج كما كنت وأنا طفلة صغيرة ألعب بالرمل والتراب والحصى ، وقتها شعرت أنني عدت لطفولتي من نافذة هون ، رغم أن طفولتي كانت خارج ليبيا لكن ذات الأجواء أحاطت بي ، البساطة والكرم وحفاوة الاستقبال ، الغناء والرقص والمرح ، المشي على الرمال حافية وتحت أشعة الشمس ، خدعتنا الصحراء حين ظننا أن ما يشبه الواحة قريبة ، سرنا مسافة طويلة قطعناها فوق أثار مدينة هون القديمة التي انهار أغلبها وبقيت أثارها تطل بين الرمال تدل عليها ، عدنا للتجمع عطشين شربنا الماء ومن ثم إلى الفندق وتفحصت سريعا حصيلتي من الصور لهذا اليوم كالأيام السابقة أنام مطمئنة أن أرشيف الصور لدي فيه من اللقطات المميزة ما يبعث على الرضا .

في اليوم الرابع والأخير للمهرجان تجهزنا للذهاب إلى المدينة القديمة التي بُنيت في العهد العثماني واليوم لازالت بعض بيوتها وزنقاتها صامدة ، لحضور أصبوحة ثقافية منوعة بحضور نسوي مميز للشاعرتين بشرى الهوني وفاطمة الزهراء اعموم التي شاركت في مسابقة الشعر الشعبي ” شاعر ليبيا ” ، والقاص المبدع ابراهيم عثمونة  والشاعر صالح عباس ، كنت ذاهبة للتصوير وتدوين ملخص للمتابعة الصحفية لكن الأستاذ صالح الحصن حين علم أن لي كتابات في القصة والشعر أصر على مشاركتي في الأصبوحة وأمام كرم دعوته وجدت في جهازي الكومبيوتر المحمول قصيدتين شاركت بهما في ختام الأصبوحة رغم خجلي من تواضع نصوصي أمام شاعرات وشعراء وأدباء مميزين لكن فوجئت بتصفيق الحاضرين والحاضرات ، وأنا التي هجرت الكتابة الأدبية منذ سنتين ونصف ولم أواجه مكبر الصوت ورهبة حضور الجمهور لنفس المدة تقريباً ، ألم أخبركم أن هون مدينة الحظ .

ختام المهرجان تعطر بالبخور وعرض للأزياء التقليدية التراثية وتجسيد لمراحل الزفاف الهوني من يوم العقد ليوم الفجرة والجهاز ، ويوم المرواح الصبحية والثالث والاسبوع ، وعرض أخر للأزياء لفرقة سمنو .

ليعذرني القراء إن بدا ما كتبته مملاً طويلاً ، هذا وأنا لم أكتب بعد عن هون وأهلها لأنني أود أن أختم به ، فقد كانت هذه الرحلة رفقة زوجي الصحفي والمصور طه كريوي كنا معاً في جل الأوقات لتغطية الدورة العشرين لمهرجان الخريف السياحي الدولي بهون ، وتشاركنا ذات الانطباع من زوايا مختلفة في التصوير والتعبير ، رافقنا عدد من الأصدقاء والزملاء وتعرفت بزملاء وأصدقاء جدد ، اقتربت من شعراء وأدباء وكتاب تشرفت بمعرفتهم عن قرب والخديث معهم ، إلتقطت الصور لهم ومعهم ،  عرفت الشاعر الراحل السنوسي حبيب من أعماله وتعرفت إليه من خلال كتابه ” أتذكر” والذي كان سيرة ذاتية له ، لم ألتقيه شخصياً لكنني التقيته بلقائي ابنتيه الجميلتين ميسون وتماضر ، تشرفت أيضاً بلقاء المصورة الفوتوغرافية سارة كمال أبوزيد وزرتها في الاستوديو الخاص بها ،  يقول المثل الشعبي ” بيت الضيق يسع ألف صديق ” وهكذا كانت هون وأهلها بقلبها الواسع احتضنت الجميع بمحبة ومودة تحت شعار المهرجان ” لم الشمل .. يحي الأمل ” ، منذ لحظة دخولنا إلى المدينة استقبلنا الأهالي بإطلاق أبواق السيارات ترحيباً وعبارات تدل على فرحتهم بالضيوف من جميع المدن ، يفسحون لنا الطريق لنعبره قبلهم ، نجد المياه والضيافة في كل مكان نذهب إليه ، الابتسامة الدافئة تشعرنا أننا بين أهل عرفناهم وعشنا بينهم ولسنا بغرباء عنهم ، يؤسفني أنني لم أتمكن من حضور الحفلات الموسيقية كل ليلة عدا الليلة الأولى نظراً للإجهاد والتعب طوال اليوم ، وكذلك لم أحظى بشرف زيارة جميع المعارض التي أقيمت هناك لتعدد الأمكنة وتباعدها مما صعّب متابعتي لها .

وتأبى هذه المدينة أن تودعنا دون أن تحرسنا ملائكتها ، فبعد مغادرتنا لها صباح الأحد كنا تجاوزنا مدينة ودان بحوالي عشرين كيلومتر انفجر إطار السيارة واضطررنا للوقوف لاستبدال العجلة واكتشفنا أن الرافعة ومفتاح العجلات غير موجودين ، فأرسلت لنا هون أحد أبنائها واسمه ” خالد الهوني ” قدم لنا المساعدة ومدنا بما احتجنا إليه ثم ودعنا قبل أن نتمكن من إلتقاط صورة له لنشكره بشكل لائق .

هون مدينة الثقافة والعطاء أعادت لي طفولة مرحة أفتقدها ومنحتني الكثير من الحظ الجيد أنوي استثماره في المستقبل .. في في هون للثقافة والإبداع مذاق تمورها ، وللفن حضور ورونق برشاقة النخيل ، تتناغم بنعومة حضورها النسوي اللافت ووجهها الحضري ، الطريق إليها من طرابلس طويل أكثر من نصفه موحش ( خلاء بو نجيم ) ، صحراء مترامية على الجانبين بضع شجيرات هنا وهناك ، متأسفة أقول لا تغطية للهواتف النقالة في هذه الطريق رغم وجود أطباق البث للإشارة ولكنها معطلة بسبب ما تعرضت له من تخريب وسرقة ، مع ذلك يبعث السكينة لروحك فتجد نفسك وقد دخلت هون أمناً مطمئناً .

 

44441

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :