فسانيا :: عبدالعزيز الزني
” حين سألته ، في أخر مكالمة بيننا ، وكما اعتدت .. ما إذا كانت له حاجة يطلبها من مدينة درنة ؟
أجابنـــــي : سلامي إلى واديها ، وبعدد أحجاره حجراً حجراً “التوقيع : رجب الماجري ..
مثلما كان تعلقه بوالدته ، كان تَعلقُه بمدينته . وادي مدينة درنة يبوح بشوق لا يعرف حتى وبعد فراق ، تجاوز أكثر من نصف قرن انطفاء .فهي المدينة التي استقبلته عام 1930م . عرفتها طفولته ، وصدر مشوار حياته غير القصير . حينها كانت درنة وكما تحدث عنها ، الرحالة الدنماركي ” هنود كلومبو ” ( هي ذات السماء الدائمة الزرقة، والشمس المتألقة أبدا بالجمال والبهجة ) وعن شبابها يقول ( كانوا يخرجون في الشوارع، وهم يزينون أعناقَهم ، بأطواق من الزهور المختلفة الألوان وبقدر ما يهمون بالجمال ، الذي يُحيط بهم ، ينطبع ذلك في ضمائرهم ) فكيف لا يصبح ومن يعيش هذه البيئة وبمشاعر متفتحة و أحاسيس منذ البدء متيقظة ، شاعرا له مذاق ينفرد به عن غيره ممن عاصروه . تغلب عليه العاطفة والحنين ، و الفخر و الاعتزاز ، والشوق إلى كل ما يحفظ للوطن والإنسان قدره ومكانته .
إني فـــــداؤك مـــوطــــــــــني ………. في اليســر واليـــــــــوم العسير
أمــــــا شعــــــاري دائــــــــــما ………. الــــــــعز أو سُكنى الـــــــقبور تغنى بهذه المعاني السامية ، في أولى قصائده ، عام 1947م ” العز أو سُكنى القبور” حينها كان طالبا ، بمدرسة ” النور” درنــــة. في الرابعة الابتدائية فتح عينيه ليرى والدته وكأي أم حينذاك ، تكابد لتباعد ما من شأنه ، أن ينال من صغيريها رجب ومفتاح ، الأخ الأكبر ، و وسيلتها مِغزل لا يكاد يفارق يديها . رغــــــــــم الأحـزانِ وعمقِ ……….. الـــجُرِح وقبــــحِ الــــــبؤس كانت أيــــــــامي فــــــــــــــي ……… عينيك مــواكــــــــــبْ أنــــس والمِـــــــغْزلِ بـــــين يــــد ك ……….يـــــــــــحُوك خيـــــوطِ الشمس فيشع الـــــــــــحبُ بـــــــــأعمـــــــاقـــــي ويــموتُ الـــيأس
كنت التقيته بمكتبه ” السبت 15 /2 /2012م ” بمبني الدعوة الإسلامية في بنغازي كان وكعادته وقد تجاوز الثمانين متمسكا بأناقته ، مقبلا على الحياة ، لا يترك موقفا أو مناسبةً أو حادثةً ، دون أن يُتبعُها ببيت من الشعر ، الذي تميز بحسن إلقائه و سليم مخارج حروفه . تعرف من تنوع أحاديثه ، أن الرجل دائمُ الانتباه لما حوله ، الذي يمثل مخزونه كشاعر ، يستمدُ منه صوراً تَنسجها عواطفٌ و أحاسيس تمتطي ما يجيد اختياره من ألفاظ وتراكيب . تلك المرأة العجوز وهى تطوف أزقة وشوارع المدينة أو تفترش الأرض تنتظر ما يجود به الأجواد ، والتي كما يبدو قد جار عليها الزمن ما فتئت تردد : ليــــــــــــام ما علــــــــيهن غيض ….. يبناً عــــــــويل و يواطن علم لا يغادر هذا البيت من الشعر الشعبي ذاكرته ، وكذلك صورة تلك المرأة العجوز ، رغم العقود الطوال من السنوات ، ولا يتردد أن يردده حين أوانه فالمناسبة عنده لها أهميتها فلا يخطئها . حدثني عن كثرين ممن رافق وعرف من رجالات تلك المرحلة ، من اعتز بهم أو عتب عليهم ، حدثني عن زميليه الشاعرين خليفة الغزواني وسليمان تربح . و أثنى كثيرا على السيدة خديجة الجهمي ، ورأى فيها سيدة من الطراز الأول . و أكد كذلك أنه أهتم بقضية المرأة . وتحدث عن رابطة الشباب ، التي أسست في مدينة درنة عام 1943م ، وكان له الدور الأكبر في هذا . وكيف أصبحت وفي عام 1944م أساسا لجمعية عمر المختار في مدينة درنة ، والتي ترأسها الشاعر إبراهيم الأسطى عمر . الشاعر رجب الماجري ومرة أخرى وهو يبتسم يعود بنا إلى الماضي ، وكيف أنه تقدم وعدد من زملائه ، لامتحان الشهادة الابتدائية الذي أقيم في بنغازي “العام الدراسي 1946 ــ 1947 م ” وكان عدد المشاركين من درنة ” 35 ” طالبا ، ومن بنغازي 20 طالبا ومن المرج 5 طلبة ، نجح منهم 44 طالبا . حينها كان أخوه ” مفتاح الماجري” المسئول التعليمي هناك ، قد رصد جائزةً ” وهي عبارة عن آلة تصوير ” لصاحب الترتيب الأول ، وكان من المتوقع أن يكون صاحبها الطالب ” محمد إسماعيل” من المرج والذي عرف بذكائه واجتهاده ، إلا أنه وبعد ظهور النتيجة وجد نفسه يقدمها لأخيه رجب . في حين كان الترتيب الثاني من نصيب ” محمد إسماعيل ، و التراتيب من الثالث وحتى السابع ذهبت إلى زملائه الذين قدموا معه من مدينة درنة . ويعود ليتحدث عن الشعر ، الذي لم تذو ذُبالتُه ، ولازالت رغم طول العمر تتقدُ . ويذكر أن هناك من تغنى بقصائده ، فهدى سلطان غنت له : وطني يا قمة أمجادي ………. وحصاد كفاح الأجداد لن يجرؤ باغ أو عادي ……….. أن يمسخ فجر الحرية ويعلن الماجري صراحة تحيزه للحب . وأنه محبٌ من الطراز الأول قالوا مُحـبُّ أجـــــــل أُحب …… وليس مثلي في الْخلق صب ُّ لو مسّ حيا في الكون جُرحُ…… لكــــــان في القلب منه نَدبُ يـــــا ليت قومي يــدرون أنّا ….. أقوى مـــن المــــوت إذْ نحبُّ.. ثم ينتقل للحديث عن الوظيفة ، ويؤكد احترامه لعمله .. فالوظيفة عنده وكما يقول :” أمانة يستوجب شرف المهنة والشرف الخاص الالتزام ببذل الجهد وفاء لهذه الأمانة ” و لعل انشغاله بها و كما قال محمد المز وغي في المقدمة الموجزة القيمة التي كتبها لدوان ( في البدء كانت كلمة كان وراء…حصره في دائرة من التعتيم الإعلامي…كما كان الحال مع الكثير من الشعراء الليبيين ممن تميزوا بعطاء كان ينبغي أن يطير بأسمائهم إلي ما خارج الوطن ) .. وسألته إن كان يوافق علي الربط بين عملية الإبداع و شظف العيش ؟ أكد هذا .. فشظف العيش عنده هو أساس الإبداع . وحين سألته ((هل لازال الصاحب ع الصاعب يبيع عباته ؟ )) أجاب….. فما موطني إن لم يصني بموطني …. و لا صاحبي إن رام ذليّ بصاحبي وعنده أن ” القصيد إذا لم تنبع من الإحساس ، فهي قصيدة ناقصة “
ولما سألته : ما إذا كان الشعر الموزون المقفى شعر “الفراهيدي” سيختفي يوما ويفسح المجال لشعر أخر جاء تحت مسميات عدة ؟ قــــــــال : الشعر حس نابض متجمع في كلمة . ليس هنـــالك شعر منثــور . إذا .. فأنت تتــفق في هذا مع الشاعر على الخرم بتسميته الشعر الحداثي أو ما بعد الحداثة “بالتخريف” فأوضح : ((إذا ما كان الشاعر “الـــخرم” يقصد ما يسمى (( القصيدة النثرية)) فهو علي حق …. و بالنسبة للماجري القصيدة العامية تزاحم الآن قصيدة الـفصحى عند القارئ ، أو المستمع
الشاعر رجب الماجري مع الشاعر عبد الحميد بكاو أستاذ رجب هل مازال أحمد شوقي أميرا للشعراء؟ “أميرا للشعر فنيا و ليس أميرا للإحساس .. مثلما حافظ إبراهيم شاعرا للنبل .. و أحمد رفيق أميرا في الشعر الوطني في ليبيا … و أكد ما قاله شوقي من أن الشعر ابن لأبوين ((الطبيعة و التاريخ)) .. و سألته…كشاعر هل أحسست يوما بالظلم ؟ فجاءت إجابته . (( ما زلت أحسن به حتى اليوم … بالنسبة لوطني و بني وطني)) الشاعر عندما يقول الشعر ماذا ينتظر ؟ تجــــاوب الآخرين مع إحساســـــه . متي يتوقف الشاعر عن قول الشعر؟ ((إن خفــــــــــــقَ القلبُ بــــلا حبٍ …….. ساعتها أعْــلنكمْ موتي)) وهذا البيت من قصيدة ((أنت)) للشاعر ديوان “في البدء كانت كلمة” ويليه. ملعونُ من يُنكـــــــرُ حبـــا …… مـــن قلبٍ يكفــــــر بالْـــــــــمقتِ وغبي من يـــــــــقرأُ شعري……و يـــــــــــعود ويسألُ مــــــــن أنت كيف كان حال الشعر خلال العقود الأربعة الماضية ؟ ((حاله بيـــــــن الشعراء حـــــــال اليتيم البائس و لكــــنة ناطق) بيت أو قصيدة يعبر بها الشاعر عن تفاعله في لحظة معينة بموقف أو حادثة بعينها فيلون هذا حياته كلها و يؤطرها، أصواب هذا ؟ أجــــــاب نعــــم . متى يتكلم الشاعر ومتى يصمت ؟ ((يصمت إذا تجمد الإحساس أو كان خائفا .. يتكلم كلما استمر إحساسه مع الناس)) هل ربطتك علاقة شخصية مع الشاعر إبراهيم الأسطى عمر؟ ((مشاعر و وطنية فقط و ليست شعرية)) الانتقام كيف تراه ؟ ((هو اقتصاص الحر لكرامته ممن اعتدى عليه)) هل يحاكم الشاعر كشاعر؟ ((في المحيط المستبد من النـــــــاس أو البيئـــــــة)) ما الذي يغضبك و يجعلك تعلن عن غضبك بقوه؟ ((الخيانة)) هل يمكن أن تصبــــــــح القبيلة جزءا مما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني ؟ ” نعم يمكن إذا كانت البيئة سليمة أخلاقيا واجتماعيا ” كيف رأيت ثورة 17 فبراير وهل توقعتها أو تخيلتها يوما ؟ ” شعبية أرجو أن تسلم من عدم الشعبية ” في الكثير من قصائدي وفي جميع مراحل عمري كنت أطالب بها ” فبنوك إن دهَم الدّجى شُهبٌ …… تهدي وإن هجم العدا رُجُم من قصيدة بلدي ـ 1992م ، ومن قصيدة “إذا ذكرت بلادي” 1952 نقرأ لا تيأسي فالشبابُ الحرّ ثورته …… تأتي علي نزعاتِ الشرّ إطلاقا ومن قصيدة “يا حبذ لو سرى بالركب قادته ” 1948م . ما زلت أسمع صوت النشءِ مرتفعاً ……. سيروا إلي المجد إن الرّكب منتظرُ. لماذا 42 عاما ؟ ((لان الشعب كان نائما علي المظالم ولم يتحرك لردِّها)) ما الذي يجعل الإنسان يعايـــــــــــــش الذل؟ ((عـــــدم تحرره من الخـــــــــوف ، أو مخالفته المبادئ الصحيحة )) منْ من الشعراء الأصدقاء أحسست بمرارة رحيلـــــــــــــــــــــه ؟ (( حسن الــــــسوسي و رفيق الـــــــمهدوي )) كيف ترى الآن : الوطن والشعر ورجب الماجري ؟ بلدي ما أروع يا بلدي ………. أن يزْهِرَ حُبُّك في خَلدي و أُحسُ حَنانَكِ يحضنني ………. و كأنك غيري لم تَـــلِدي و كـــــأني أمتلك الــدنيا ………. وزمامُ القوةِ طَوعُ يـــدي إلى أن يقـــــــــــــــــــول : عـــهدا لو أن يدي قَبلتْ ……….. إذلال القيدِ قطعت يدي هل تحتاج حرية الرأي والتعبير لقوانين تنظمها وتضبطها ؟ (( الأخـــــلاق و المـثـــــــــــــــل العليـــــــــــــــــــا )) بيت أوعدت أبيات تبعث بها الآن إلى درنة : عُـــوجُوا عــلى دَارِ سَلمى ………. وأقــــرئوها الـسلاما وقــــــولوا إن صـــــــبَّا ……….. بِحبها مُسْتَـــــهَامــــا لمَّـــــا يــــزل يَـتـــغنــــى ………. تشـــوقا و هُيــــــــام و يــــــقول : يــا من هــــواها بقلــبي ………… مدى الحياة مــكـــين يجيــشُ بيــن ضُلــوعـي ……….. وهْــجا و لا يستكيــن ويقول : والطيبات العــــــذارى ………. للطيبين سُــــــــــكوُن جُبلْـــــنَ من ذو بورد ………. مــــــزاجه اليـــــاسمين أنفاســــــــهن الخُــزامي ……… والفُل والنّســـــــــــــريــن وإن تحــــــدثنَ همـــــسٌ ………. مُــنَـغـمٌ و لُــــــــحُـون هـــــل الــــــفراديس إلاّ ………. رَوْضٌ و حُـورٌ عِـــــــينَ و في الختام أستاذ “رجب” الثمرة مــــن يقطفهــــا ؟ (( مـــــــــــن أنتجــــــــــــــــــــها ))