بقلم :: صالح حصن
أنا … ، وأنا …. ، و أنا….، وأنا، أكثر كلمة تُرددها تلك المرأة ما يجعلها في نظري مُضجِرة فلا أتابع لقاءاتها المتلفزة , أعرف أن لها محبين وجمهور واسع من سِمّيعة بذائقة فنية سمعية عالية جداً وربما ذلك ما يدفع بي للإستماع لها حين تغني و أحياناً كثيرة لا أستعذِبُ ما غنت. قولي هذا لا يلغي إعترافي بل و تقديري لما اكتسبته ووصلت له من قدرات فنية عالية بفضل موهبتها وتأسيسها السليم ومِراسها و مثابرتها منذ نعومة أظافرها ولعقود مضت. نتائج ذلك الجهد تبدو جلية واضحة أثناء غناءها حيث تتجاوز به كل حواجز تباين الأذواق وميول الأهواء عند مختلف المستمعين. كما ويتبين خلاله ما امتلكته من تحكّمٍ عالٍ وسيطرة على حنجرتها ومكامن مرققات ومفخمات الصوت ومن ثم الوصول بصوتها إلى المرتبة التي تريد من طبقاته ومناغمته مع اللحن وعُربه ، في تكامل واتساق مع أوتار الآلات الموسيقية و دقات إيقاعها وصفير مزاميرها ، مضفية وميضاً من إيماءات الأحاسيس وفيض المشاعر على كل كلمة وكانها الغَزْل المردون بنسيجه. هذه المُطربة تتعامل مع الغناء بحرفية تامة و بجدية مطلقة لا أظن أن كثيرين قد فعلوا ذلك قبلها إذا ما استثنيتُ “عبد الحليم حافظ” وما أشتهر به من جدية وإتقان , بان عليّ هذا أكثر ما بان في أغنيتها “يا صابرة يانا يا مداريّة”. مع هذه الأغنية و بأداء لها شبه أوبيرالي توصل سامعها، متى ما أصخى السمع والفؤاد، لفضاءات لم يسبق لغيرها أن أوصله إليها وهناك تشق به دروب الإنتشاء محمولا معها فوق اللحن كما لو أنهما يتزلجان متموجيَين صعوداً وهبوطاً ، يميناً ويسراً على مسارب ثعبانية الإلتواء بين الهضاب و الوهاد , إسم الأغنية لم يكن أقل وهجاً من كامل المحتوى “يا صابرة يانا يا مداريّة” معنونة جُملة خطابها للمرأة، ومن غير المرأة يليق به إسماً وعنواناً لأغنية عن الصبر والمداراة. ليس غير المرأة في كل الثقافات وكل الأزمنة رمزاً للصبر والمُداراة ورفع حِمل الحياة الدنيا، ومن يقدر غير المراة يؤرض شحنات الوجع كما تؤرض أمنا الأرض شحنات صواعق السُحُب وبذلك وحده تتجمِّل الحياة وتنفض ما يكتنف بها من قُبح و كدر وعُزلةٍ وغياب، بل من غيرها قادر على أن يرسم وجه الحياة على الحياة. أما كلمات الأغنية فبرغم ما بها من جمال وتناسق غير أنها ما كانت بمستوى الباقيات من كيانها فقد كانت تقليدية مُستَنفذة وبالية الموضوع فقد كانت فقط تشكو ظلم الحبيب لمحبوبه ولم تتوسع في تناول ما يحمل العنوان من عمق ومغزى و مع هذا يُحسَبُ لها أنها من استفز الملحن وحفّز المطربة على الإنشاء والإبداع، كثيراً ما يسير اللحن والأداء على غير مسار الكلمات فإما يفوقها أو يكون دونها فلم تكن جميع كلمات أغاني فيروز بقدر إنتشارها وشهرة صاحبتها كما ولم تكن جميع أغاني أم كلثوم بقدر إنتشارها وشهرة أم كلثوم. وحفاظاً على روابطي مع الموروث و إدعاءً لمواكبتي ما انبنى فوقه أقول أن “يا صابرة يانا يا مدارية” في مجملها هي أروع ما تم غِناؤه مما سمعتُ منذ غياب عبد الحليم حافظ. إن هذه الكائنات الجمالية ومنها الأغاني نأخذها على علاتها كمُكَوَن كلي متجانس غير مُجزاء فإما أن يروقنا ونضمه إلينا أو نتركه وشأنه مع غيرنا.