محمد عثمونة
القراءة الموضوعية تقول لا يجب عزل ما يدور بليبيا عما يجري في الفضاء الجغرافي لشرق وجنوب المتوسط. فما تَمُور به البلاد في وقتنا هذا , ليس غير مفردة من المفردات التي تتشكل منها الترتيبات الدولية , التي تسعى نحو التأسيس لتموضعات دولية جديدة . لتكون محددا ثابتا لإدارة هذا الفضاء الجغرافي خلال الحقبة الزمنية القادمة. وما هذه الاختناقات المسببة لهذا الكم من الإرباك الذي يعصف بالكيان الليبي إلا عارض من أعراض هذه الإرهاصات الدولية. ونستطيع رد وإرجاع هذه الاختناقات وفي الحالة الليبية إلى المحاولات المستميتة لتلك المنظومة الوظيفية العميقة , التي جاءت وتعمقت وتجذّرت في فضاء شرق المتوسط وجنوبه , على يد عرّابها الإنجليزي في زمن ما بين الحربيين فيما عرف بمشروع سايس- بيكو . والتي تسعى وتجتهد في حاضرنا هذا , وبكل السبل نحو إعادة إنتاج ذاتها , بغرض المحافظة على ديمومة واستمرار أولوية حضورها في جملة المشهد الفكرى، السياسى. الاقتصادى، الثقافى، الأمني، إلخ… في هذا الفضاء الحيوي والهام.
وهذا الفعل يجعل هذه المنظومة في تعارض وتصادم مع الوعي الذي استنهض واستحث الناس بليبيا – كمثل- للانتفاض والثورة عام 2011 م على الواقع المادي المعنوي البائس , الذي أرهق حياتهم. فخرجت مٌتمردة على ركائز هذا الواقع البائس لتقويضها من خلال المطالبة والسعي نحو بديل يؤسس وينهض على مشروع خدمي تنموي , ينتهي بها إلى أمن واستقرار يحتضنه واقع مأمول , يليق بآدمية إنسان هذا العصر التي كرّمها القدير وفي كل العصور على كثير مما خلق. فما جاءت به الترتيبات الدولية على يد سايكس- يبكو في زمن ما بين الحربين , كان المحدد الرئيسي لإدارة الفضاء الجغرافي لشرق المتوسط وجنوبه على امتداد قرن من الزمان .
وقد كان نتاج وحصاد تلك الترتيبات الدولية على امتداد هذا الزمن المديد ما يتخطى عشر حروب كان هذا الفضاء الجغرافي ساحات لعمليتها القتالية , بحصيلة مئات الآلاف من القتلى وما يعادله من مشوهين وما يصاحب ذلك من يُتم وتُكل وخلافه , ونهض على هامش مآسيها عدد ليس بالقليل من التيارات الراديكالية التي ألحقت الضرر موتا وخرابا بالفضاء الإقليمي والدولي . ومن الطبيعى أن هذا العبث لا ينشأ ولا ينمو ولا يترعرع إلا في فضاء وبيئة هُيّئت لإنتاج التخلف الذي لا ينتج إلا تخلفا ليٌردفه بآخر مركّب. ولا نستطيع إرجاع أسباب هذا العبث المدمر الذي عصف بفضاء شرق المتوسط وجنوبه على مدى هذا الزمن المديد , إلى غير الترتيبات الدولية التي جاءت للعالم في زمن ما بين الحربين العالميتين وأسست لما عُرف حينها بعصبة الأمم , وعالجت فضاء شرق المتوسط وجنوبه بمشروع يَتَقاسمه مناطق نفوذ تحت مُسمى مشروع سايكس- بيكو بهندسة ورعاية إنجليزية.
ومنذ ذلك الحين صار الاستقرار والأمن والسلم بالإقليم لا يستمد مضامينه إلا من ديمومة بقاء واستمرار وتجذر هذا المشروع في فضاء هذا الإقليم . بخلاف نظيرتها الدولية التي جاءت عقب الحرب العالمية الثانية. لتؤسس وتعتمد وللعالم ما أسمته بهيئة الأمم المتحدة بديلا عن سابقتها عصبة الأمم. وقدّمت وفي الآن نفسه , للفضاء الجغرافي للغرب الأوروبي ما عٌرف بمشروع مارشال لإعمار أوروبا وكان بهندسة أمريكية. وانتهى في مجمل حصاده إلى نهوض الغرب الأوروبي من تحت أنقاض الحرب وانخراطه في حياة يسودها استقرار وسِلم دوليين يستمدان مضامينهما من جملة ما جاءت به مواثيق الهيئة الأممية. فأضاف الغرب الأوروبي نتيجة تلك الترتيبات الكثير الإيجابي لمسيرة الحياة مما دفع بعجلتها قفزات هامة نحو الأمام. إن هذه هي القراءة الموضوعية لما يدور في فضاء شرق وجنوب المتوسط . وما الحالة الليبية إلا صورة مصغّرة لما يمور به هذا الفضاء الجغرافي الواسع .
فمثلا في الحالة الليبية ومع بداية عام 2011 م . اكتسحت الانتفاضة بحراكها الشعبي البلاد . وقبل أن تتمكن من بلورة قيادتها ومن ثم صياغة مشروع خدمي تنموي ليكون معبرا لها نحو إرساء حياة كريمة لكل الناس. استَنفَرت تلك المنظومة العميقة كوادرها بالبلاد , في خطوة للوقوف في وجه الانتفاضة . وانتهت باستدراجها إلى صخيرات المغرب. وبتلك المدينة المغاربية وبما جاءت به مخرجات الصخيرات وملحقاته وتوابعه. تم تَرسيم المشهد الليبي برمته . السياسي . الإعلامي . المالي . والمليشياوي وحتى الاجتماعي . وليحتل صدارته وفي المجمل جل ممن جاءت الانتفاضة لمعالجة نهج إدارتهم لشؤون الناس داخل ليبيا خلال العقود الماضية. والتي انحدرت بفعلهم الحياة وعلى مدى عشرات السنيين إلى مهاوي بؤس مادي معنوي لا يصدق . فهؤلاء وفي هذه المرة كان حضورهم داخل المشهد بوجه وهوية ولسان مختلف. ليس وكما يُروج رغبتا منهم في البقاء تشبثنا بالمناصب للاستمرار داخل السلطة . بل كانوا أداة لتلك المنظومة العميقة للاحتفاظ وبهم على ديمومة استمرار الترتيبات الدولية التي جاءت إلى هذا الفضاء الإقليمي كمحدد لإدارة شؤونه على امتداد عقود القرن الماضى. ويتأكد لنا هذا الطرح , عندما نعرف من كانت بيده إدارة شؤون الملف الليبي داخل مجلس الأمن وأروقة الهيئة الأممية. فلا شك بأنه كان من وراء الدعم الدولي وإضفاء الشرعية الأممية لكل ما جاءت به مخرجات الصخيرات وتوابعها مع ملحقاتها. ووقف بعد ذلك مدافعا عن كل العبث الذي يعصف بحياة الناس بليبيا. ومن داخل أروقة مجلس الأمن . شاهرا في وجه كل معترض سواء كان محليا أو إقليميا أو دوليا ما أسماه بالشرعية الدولية. جاعلا من الهيئة الأممية وبجملة مواثيقها شاهد زور على اللامعقول . الذي يعبث بحياة الناس بليبيا. كنت أحاول أن أنتهي بالقول من خلال كل ما سبق. ليس أمام المجتمع الدولي إن كان جادا في سعيه برفقة الهيئة الأممية , نحو التأسيس لترتيبات دولية ينتهي بها إلى إرساء أمن واستقرار وسلم دولي . بفضاء جنوب وشرق المتوسط , الذي يضم فيما يضم الوعاء الجغرافي الليبي . ألا يعتمد غير ما جاءت به مواثيق الهيئة الأممية وحقوق الإنسان كمرجعية وحيدة في تعاطيه وتفاعله مع الشأن الليبي . وألا يتعاطى مع الوعاء الجغرافي الليبي , ليس غير مفردة جغرافية من مفردات فضاء شمال غرب أفريقيا .
وكيان أساسي هام في مجمل مما يتشكل منه حوض المتوسط الحيوي . واعتماد نتيجة كل ما يترتب على ذلك . ابتداء من إعادة لصياغة كل أولويات هذا الوعاء الجغرافي في الجوار والمجال الحيوي وليس انتهاء بترتيبات كل ما يتعلق بالشأن الأمني والسياسي والثقافي إلخ… بما يتوافق مع ذلك. وألا يعتمد غير الجسم الليبي الوحيد الذي كان حضوره إلى المشهد من خارج مؤتمر الصخيرات وتوابعه وملحقاته. هذا الجسم الليبي الذي استنفر واسّتنهض بفعل صرخات الاستغاثة الصادرة من عموم الحواضن الاجتماعية ونخب شرق البلاد مطالبة لنجدته . فاقتحم المشهد تلبية واستجابة لنداءاتها . اعتماده وليس غير الشريك الليبي المحلي الوحيد مع من ائتلف معه من غرب البلاد . واعتبارهم الممثل الطبيعي لليبيين أثناء تفاعل وتعاطي المجتمع الدولي برفقة الهيئة الأممية مع كل ما يدور داخل الوعاء الجغرافي الليبي والإقليمي , بهدف إرساء ترتيبات دولية تحفظ الأمن والاستقرار ليس بليبيا فقط بل بإقليم جنوب وشرق المتوسط . وأي سبيل غير هذا – في تقديري – سينتهي إلى اعتماد مخرجات الصخيرات وتوابعها وملحقاتها . والتي ستنتهي إلى إعادة صياغة وإنتاج أدوات كل ما كان على امتداد قرن من الزمان – وهو سيئ وبكل المقايس – ليس بليبيا بل و بفضاء شرق المتوسط وجنوبه .