بقلم :يحيى سلامة
لن يجانبني الصواب أو اقع في فخ المبالغة إذا قلت عن كتاب (موت الناقد )أنه أهم كتاب نقدي صدر حتي اليوم وأن قراءة هذا الكتاب لكفيلة بأن تصحح لدينا العديد من المفاهيم الخاصة بتصورنا عن الإبداع والنقد معا (كمبدعين ونقاد وجمهور قراء ).
تعتمد فكرة الكتاب الأساسية علي موت الناقد (بالمعنى المعنوي ) في كناية عن استبعاد الناقد الأكاديمي المنتظم في العمل بالسلك الجامعي لصالح الصحفيين المحررين الأدبيين في المجلات والجرائد السيارة وأصحاب المدونات علي شبكات التواصل الاجتماعي ومراجعي الكتب المتعاملين مع دور النشر بل وأيضا لصالح الشعراء وكتاب الروايات والمسرحيات الذين يمارسون النقد بأنفسهم بكتابة مقدمات دواوينهم الشعرية أو مجموعاتهم القصصية ورواياتهم التي يقدمون بها أعمالهم للقراء ويشرحون فيها انتماءاتهم ومدارسهم الأدبية وبالتالي فلم يعد الجمهور في حاجة إلي ناقد يوصيه بأن يقرأ لهذا المؤلف أو لايقرأ لذاك ولا أن يرشح له عمل أو صنف أدبي ما لقراءته بل إن القارئ نفسه أصبح من حقه أن يمارس النقد من خلال تعليقه على الكتب في منصات بيع الكتب (كموقع امازون مثلا ).
ولأن الكتاب هو في الأصل بحث أكاديمي جاد يلتزم بالحيادية العلمية وعرض الرأي والرأي الأخر فالكاتب لا يتعامل مع هذا الأمر علي أنه مسلمات وبديهيات أو أنه قد قضي الأمر ومات الناقد وإنما كان هذا العرض في مقدمة وتصدير بحثه والذي أعترف فيه أن فكرة أو مقولة موت الناقد إنما كانت نتيجة لمقولة رولان بارت (موت المؤلف )فإذا كان بارت قد أمات المؤلف وإزاحة من المشهد لصالح القارئ فما جدوى وجود الناقد .
الكتاب يقع في أربعة فصول .
يمثل الفصل الأول المقدمة التي أوردها الكاتب عما يتهدد وجود الناقد الأكاديمي وبقاءه في المشهد الأدبي وأن هذا التهديد قد بدأ وتزامن مع مظاهرات الطلبة عام 1968 من القرن الماضي في أوروبا تلك المظاهرات التي شكلت فعلا ثوريا ورديكاليا والنظر بعين الريبة وعدم الارتياح لكل أشكال السلطة والمؤسسات بما فيها المؤسسات الأكاديمية .
وفي الفصل الثاني (وهو أهم وأمتع فصول الكتاب )يقدم الكاتب عرضا تاريخيا شيقا وبقدر إيجاز هذا العرض وعدم ضخامته إلا أنه يقدم وجبة تاريخية دسمة لتاريخ النقد الأدبي منذ عصر أفلاطون وأرسطو وهوراس وشيشرون مرورا بالقرون الوسطى وعصر النهضة ونظرية علم الجمال عند الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط وأراء شيلر وتي سي اليوت وشيلي وكيتس وتأثرهم بالشعراء الفرنسيين مثل لامارييه في آراءهم النقدية ورؤيتهم الإبداعية على السواء مستعرضا المدارس النقدية الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (الرومانسية والكلاسيكية الجديدة والواقعية ونظرية الفن للفن ونظرية الفن للمجتمع )وصولا إلي بدايات القرن العشرين .
وفي هذا الجزء الهام من الكتاب يشيد المؤلف بدور الناقد الحيوي في الحركة الإبداعية للأدب بقوله (أن الابداع الجيد ينمو ويتطور في ظل حركة نقدية واعية ومزدهرة) .
ومع بداية القرن العشرين يبدأ الفصل الثالث من الكتاب والذي يستهله المؤلف ببداية الإشكالية أو الأزمة النقدية التي ماتزال متفاقمة حتي اليوم وتتمثل هذه الإشكالية في أنه ومع بدايات القرن العشرين دخلت الآداب في مناهج التدريس بالجامعات البريطانية والأمريكية وانتقل الأدب من صالونات ومقاهي المناقشات وصفحات المجلات والجرائد الي مدرجات الجامعة وأصبح (أو مازال يطمح لأن يكون علما )يزاحم بمنهجه وآلياته العلوم الطبيعية كالرياضيات والفيزياء ومن هنا بدأت الأزمة والمشاكسة والتلاسن بين النقاد الأكاديميين الذين تعاملوا مع الأدب لعقود على أنه تاريخ وسيرة ذاتية للمؤلف وان القصة أو القصيدة أو المسرحية يجب دراستها في ظرفها التاريخي والزمني الذي أنجزت فيه دون النظر إلي الذائقة الأدبية أو الجماليات الموجودة داخل النص وهو عكس ما كان يهتم به النقاد من خارج الحرم الجامعي من كتاب ومحرري الصفحات الأدبية الذين اكتسبوا شهرة وقبولا لدى جمهور القراء العاديين لأنهم أولوا الذائقة الأدبية الاهتمام الكبير كما أنهم قدموا للجمهور الأعمال العادية الأقل شهرة عن الأعمال القيمة أو الأعمال المعيارية التي عني بها النقاد الأكاديميين داخل الجامعة بل أن الكتاب الصحفيين قدموا دراسات ومقالات عن المسلسلات التليفزيونية و حتى عن الأفلام التجارية والموسيقي الشعبية .
ونتيجة لهذه الشعبية الطاغية التي تمتع بها النقاد الغير الأكاديميين كان على النقاد الأكاديميين أن يغيروا من قواعد اللعبة في منتصف القرن الماضي لتظهر نظرية البنيوية التي تبناها الفيلسوف والناقد الفرنسي الشهير ميشيل فوكو والتي استفادت من علم اللسانيات وعلم الاجتماع في تفسير الأدب والنصوص الأدبية من منظور لغوي وأن العمل الأدبي ماهو الا علاقات اسنادية بين مفردات وتراكيب اللغة في محاولة لإلباس النقد لباسا علميا يخضع لمنهج علمي صارم يصعب علي غير المتخصص أن يخوض فيه أو يقترب منه ولعل هذا ما دعا (سونتاج )وهي مثقفة عامة وغير أكاديمية وروائية وكاتبة مسرح وكاتبة مقالات يسارية أن تسخر من نظرية البنيوية بقولها (نحن في أمس الحاجة إلى منهجية حسية في الفن في مقابل النظرية الأكاديمية التي سعت الي تحويل أساسيات النقد الأكاديمي الي شكل من أشكال علم الميكانيكا ).
ولعل أهم ما في الكتاب وكمقدمة لخلاصة البحث ماجاء في الفصل الرابع حديث المؤلف عن (الدراسات الثقافية )أو مايعرف بلغة النقد (نظرية مابعد الحداثة )والتي ربما أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد كما يقال فهي من ناحية أرادت كسب جمهور الغير الأكاديميين بأن عرفت الثقافة أنها كل شيء واي شيء يمارسه الإنسان في حياته اليومية فالثقافة هي أن يؤلف رواية أو تقوم بتنظيف أسنانك أو تذهب للسينما وافرغت الأدب والفن من تميزه ومن ناحية أخرى حافظت علي وضعها الأكاديمي الرفيع فعمدت الي تقديم نظريتها بمصطلحات صعبة وغامضة كعصر الكولينالي ومابعد الكولينالي والجندر وقدمت منظريها على أنهم متعددي التخصصات أو بعبارة المؤلف (الباحث العابر للتخصصات )الذي يتحدث في كل شئ في وقت واحد ولعل أبلغ رد علي هذا التوجه لما عرف بالدراسات الثقافية ماعرف باسم (خدعة سوكال )والقصة أنه في منتصف التسعينيات قبلت مجلة (social text )( النص الاجتماعي )مقالا لعالم الفيزياء الان سوكال ادعى فيه أنه يقدم نقدا سوسيولوجيا (اجتماعيا ) للمنهج العلمي وقد استخدمت المقالة معجم مابعد الحداثة لتشكك في دعاوى الحقيقة التي يقول بها العلم وكان الأمر بالطبع خديعة مصممة لتشويه سمعة الدراسات الثقافية وادعاءاتها ومكانتها المشكوك فيها وبعد نشر المقالة كشف سوكال عن الفضيحة مما ابهج قطاعات واسعة من الصحافة العامة واسعة الانتشار .
وليس سوكال وحده من سخر وارتاب مما قدمته (نظرية مابعد الحداثة ) فالكاتب يفاجئنا في نهاية الكتاب بمفاجأة من العيار الثقيل وهي أن الكاتب اليساري الإنجليزي الشهير تيري اجلتون وهو أحد المتحمسين و المنظرين لنظرية ما بعد الحداثة في كتابه (ما بعد النظرية الصادر عام 2003) ينتقد النظرية ويقر أنها فشلت في تقديم الحلول التي وعدت بها فيقول : (تعدنا النظرية الثقافية الحالية بالقبض علي المشكلات الأساسية لكنها تفشل علي العموم في تحقيق ذلك .
لقد شعرت بالخجل من طرح المسائل المتعلقة بالاخلاق والميتافزيقا و أحرجها الحديث عن الحب وعلم الأحياء والدين والثورة كما أنها سكتت عن قضايا الشر ولم تتحدث عن الموت والمعاناة وكانت متصلة بشأن من مسائل الجوهر و المسلمات والمبادئ الأساسية وسطحية في حديثها عن قضايا الحقيقة والموضوعية والنزاهة والحياد ويعود هذا الفشل إلى حال ضخامة مشروع العمل الذي نذرت له نفسها (ما بعد النظرية ص( 101- 192)
ولأن مايريد كل شيء يخسر كل شيء فكانت نظرية مابعد الحداثة هي المسمار الأخير في نعش الناقد الأكاديمي والذي ينتظر الجميع إعلان انسحابه من المشهد النقدي والأدبي .
فالتيار الجديد البنية متعددة التخصصات حلت في مسابقات الأدب الإنجليزي كلمة النص الصقيلة والباردة والعلمية محل كلمات القصيدة أو المسرحية أو الرواية الحارة المثقلة بحكم القيمة أصبح مفهوم الأدب نفسه محط سخرية وتشكيك .
ويعزي المؤلف فشل النظرية الجديدة وعزوف الجمهور عن التعاطي معها بقوله إن الجمهور لن يحترم الأكاديمي عندما يكتب دراسة عن حفلة ديسكو أو عن فيلم تجاري أو أغنية شعبية وربما يتقبل الجمهور هذا من صحفي أو كاتب مقال ولا يتقبله من ناقد أكاديمي .
ويختتم المؤلف الكتاب بقوله :
لربما لا يكون الناقد قد مات بل جرت ببساطة تنحيته جانبا أو أنه يأخذ سنة من النوم وتتمثل الخطوة الأولى الضرورية لايقاظه أو ايقاظها في استعادة فكرة الجدارة الفنية وزرعها في قلب النقد الأكاديمي
أن الحكم هو المعنى الأول من معاني الكلمة اليونانية (critos ) وإذا كان النقد راغبا أن يكون مقدرا ذا قيمة ومهتما كذلك بالوصول إلى جمهرة القراء فعليه أن يكون تقويميا