علم نفس الكائنات الصديق أبو دواره لا شيء بلا أسرار .. ولا كيان بلا مخبأ يستر فيه ألغازه الحصينة ، ولا كيان لخزانة غموضه الخاصة هذا هو مكمن القوة في نص "عوض الشاعري" . إنه يتمتع بقدرة خفية على اقتحام هذه "الدشم" الحصينة ، ويستطيع ببساطة متناهية أن يستنطق الكائنات من حوله ، كل ما يلزمه لفعل ذلك هو مجرد الكتابة فقط ، يكفيه أن يمسك بالقلم ليفعل ما يعجز عنه غيره . في مجموعته هذه يبدو "عوض الشاعري" جريئاً مقتحماً وعميقاً إلى أبعد حد وهو يفلسف لنا غموض الكلاب المعتاد ، ويستعرض قدرته الفائقة في الغوص في أعماق سكون سحيقة تقطن هناك ، في برزخ كائن وثيق الصلة بالانسان منذ ماقبل التاريخ ، كائن عاش مع البشر أحلك أيامهم ومختلف عصورهم السحيقة ، لكنه لم يتفوه بكلمة واحدة عن ما رآه أو سمعه بعد . المجموعة صدرت عن "كتاب المستقل " ، وهي سلسة اصدارات تصدر عن مجلة المستقل الصادرة في القاهرة ، واحتوت على 84 صفحة من القطع الصغير ، ضمت 20 قصة بالاضافة إلى مقدمة وافية كتبها الأديب الليبي المعروف "فوزي الحداد" . منذ السطر الأول في القصة الأولى يدخل "عوض الشاعري" في صلب الموضوع : (( بعد معركةٍ غير متكافئة خرج منها بذيل نصف مقطوع ومؤخرةٍ دامية ، قرر أن يرحل عن قطيع الكلاب ، ويترك لهم القرية بما رحبت . )) الكلاب ، هي الموضوع الرئيسي لهذه المجموعة ، إنها تروي للبشر برمزية مذهلة تفاصيل حياة ، لعلها حياة مشتركة بين الكائنات ، فالمعالم التي تضع وشمها على جباه الأحياء لا تفرق بين إنسان أو كلب ، الاثنان يتورطان في الحياة ، ويعانيان من وطأة غبار الأزقة وتصاريف الدهر ، وذلك الكهف الذي آوى قديماً فتية الكهف الهاربين من الاضطهاد لم يفرق بين أجساد المحتمين به وبين جسد كلبهم الوفي ، فالكل رهينة كهف ، والجميع عبرة لمن يريد أن يعتبر . "عوض الشاعري" يؤسطر هنا علاقة الكلاب بتفاصيل حياة البشر ، وهو في قصته الأولى في المجموعة والمعنونة بـ أصوات ، يستعرض تفاصيل هزيمة كلب في معركة تواجده في المكان ، إنه يخسر الموقعة التي كان يظنها فاصلة ونهائية ، ويسلّم بالهزيمة ويرحل مبتعداً بجراحه وصمته وخيبته : (( على غيرهدى ركض ، وركض ،وظل يركض ، والأفق يمتد كأن لا نهاية له ، وآثار الهزيمة تتبع خطاه المجللة بالذل والهوان كحارسٍ غير أمين . )) أذكر أني هنا توقفت ، وابتسمت بوجع لاحدود له متسائلاً بلا حروف : ــ هل هي هزيمة الكلاب أم هزيمتنا يا صديقي ؟ القصة الثانية كانت بعنوان " سطوة الكلاب " ، وهي نص ممتع يؤرخ لعلاقة قديمة بين الانسان والكلب ، علاقة "اجتماعية" إذا صح التعبير : (( حكيم بدوي أجبر خصومه على الإمساك بذيل أطول كلابه بطريقة عمودية ، وغمره بمحصول قريتهم وكل القرى المجاورة من قمح البرية المحصود بمناجل لامعة تحت ضوء القمر ، وعندما لمح نظرة الانكسار في عيون غرمائه أصدر حكمته الذهبية : لا تضرب كلباً قبل أن تعرف صاحبه )) وهي علاقة تجعل من صاحب الكلب حصناً يقي الكلب من الاعتداء ، بل وتمتد هذه العلاقة إلى كونها مثلاً شعبياً يصلح لاستعمالات بلا عدد تجاوز حدود هذه العلاقة إلى منظومة مفاهيم اجتماعية في منتهى الأهمية والخطورة معاً . هذه العلاقة الجدلية بين الاثنين تجعل من القصة الثالثة " الكلاب والذئب" نموذجاً لانحياز البشر إلى الكلاب في مواجهة ذئب انتهك حرمة الاثنين معاً ، فكانت المكيدة التي دبرها عقل البشر فانتصر بها الكلب على خصمٍ عنيد ،فتشابه الهيئة هنا بين الذئب والكلب لم يكن كافياً ليحل الذئب محل الكلب كصديق للبشر ، فالذئاب لا تستطيع التخلي عن سطوة أنيابها كما تفعل الكلاب . "عوض الشاعري" يستطيع وبسهولة مطلقة أن يغادر هذا النهج ليكتب علاقات انسانية عابرة ، لكنها راسخة ومتينة ، وبامكانك أن تقرأ هذا في قصص "عاشق الجنيات " و "سيد المدينة" ، و"الببغاء المقرور" ، و"الحاجة" ،و " القرار" ,و " الكواكبي" ،و"ليلة عيد " . كلها حالات انسانية لم يسمح لها القاص أن تصبح حالات "عابرة" ، بل اقتنص منها أروع ما تحتويه ليكتبه أدباً يستحق القراءة بالفعل . لكنه يعود من جديد إلى فلسفته في الغوص في ضمير الكائنات ، وهذه المرة بشجن لا يوصف : (( حينما تقرصك بعوضة الوقت ، ويعض أحلامك نباح الكلاب المموسق بصياح الديكة قبيل الفجر ، ثق أنك لازلت تعيش على الأرض . )) القصة مذهلة بالفعل ، وتحمل اسم "فوبيا النباح" ، وتمتليء بشجن لا يوصف ينتهي بجملة تتجاوز حدود مانجهله إلى وجوه نعرفها ونحفظ تقاطيع أفعالها عن ظهر قلب : (( في البيت تتعالى أصوات أطفالك بالشكوى : ــ ليس ثمة ماء ، الملح يلهب جلودنا . فتخرج الكلمات من بين شفتيك وتردد : ــ مؤكد أن كلباً ما قد أغلق الصنبور هذه المرة ! )) في قصة " الطريد " ، لا شيء غير الكلاب يكون شاهداً على رحيل البشر إذا ما حان موعد الرحيل : (( ترك كل شيء وخرج وحيداً يجرجر خطواته كالمهزوم ، لا أحد يتمنى له رحلة موفقة ، ولا مودع ، سوى نباح الكلاب التي بدت وكأنها متواطئة مع أهل القرية على سوء معاملته والتعجيل برحيله خارج حدود القرية . )) في قصة "ميم" ثمة التقاطة مفاجئة لركام من الذكريات البعيدة ، كل أسماء الحبيبات تبدأ بحرفٍ واحد هو "ميم" ، نوع من الإصرار على غرابة الحدث لم يحد منه تخصيصه للقصة التالية لكائن آخر في منتهى قدسية الكائنات ، إنها قصة "نور عيون" التي جعلها سيرة مختصرة جداً للأم التي ترى في ابنها نوراً تفيض به الروح . قصص "محطة" و"الولد الغبي"و"فكرة" ، عادت لتتمعن أكثر في مواقف ومشاعر تتناسل من كونها لازمة لا يتخلى عنها البشر ، وردود أفعال تتلائم مع حجم الموقف ومدى تأثيره أو التأثر به . خاتمة المجموعة كانت مسكاً ، بل كانت انتماءً ورجوعاً إلى الأصل ، كانت قصة تحمل اسم مدينة القاص ، وهي إحدى أشهر المدن الليبية بتاريخها المعاصر ، إنها مدينة "طبرق" التي كان قدرها أنها دائماً مدينة الموقف الفاصل في الوقت الحرج . ختاماً ، أعرف أن مساحة الكتابة لا تفي بحجم الاحساس ، هذه هو قدر الكاتب دائماً ، لكن يظل المعنى أكبر من كل شيء ، والمعنى هنا يقول بأن في ليبيا الآن قاص يتمتع بقدرة خرافية على قراءة دواخل الكائنات من حوله ، أنه "عوض الشاعري" القاص الذي استمتعت حقاً بقراءة مجموعته الجديدة "سطوة الكلاب " .
المشاهدات : 831