- أ / المهدي يوسف كاجيجي
( هذه قصاصات لكتابات صحفية، مضي علي نشرها ما يقارب من نصف قرن، تغيرت فيها الدنيا. نعيد النشر بعد اختزال النص الاصلى، بما يتناسب وفكر جيل الأحفاد الرقمى، ليعرفوا كيف كان زماننا.) المهدي يوسف كاجيجي
إلى من يهمه الأمر ؟!!
لم يتغير أئ شئ هنا وكذب من قال عكس ذلك. هذه، التحقيقات عن الجنوب، القصد منها الدعوة إلى الإلتفات لما يجري هنا، فى هذه القطعة من الوطن. علما أن ما يجري من أخطاء ،لن تنهيه زيارة مسئول أو مسئولين ،فالمأساة التى يعيشها هذا الجزء من الوطن بحاجة إلى دراسة جادة تنبع من هنا، وليست من المكاتب المكيفة الهواء الواقعة فى الشمال. نحن نعرف مسبقا أن اراضى الجنوب مترامية الاطرف، وعدد السكان قليل ومتفرقون، ولكنها أسباب لا تكفى بأن نتجاهل قطعة من أرضنا وجزء من شعبنا ،نتركه يمضغ الحزن والأسي ليعيش على هامش الحياة . هذه التحقيقات هى محاولة حسنة النية القصد منها الدعوة إلى الإلتفات لمايجري هنا في فزان.
لم يتغير أي شي هنا وكذب من قال عكس ذلك، من الطائرة سبها تبدو كقرية تعيسة شهباء، وإعذرونى عندما اطلق على عاصمة المحافظات الجنوبية قرية ،لانها الحقيقة ، ولاننى أرفض المجاملة على حساب اهلنا هنا، بل أنا اجزم أن اصغر قرية فى الشمال هى أفضل الف مرة من عاصمة المحافظات الجنوبية.
لم يتغير أى شئ هنا، ما عدى الوجوه الطيبة التى تستقبلك بالايدي الممتدة بحرارة،والوجوه المبتسمة التي تعانق كل قادم مرحبة فرحة، وجوه يكسوها مسحة حزن نبيل.الطريق الطويل الممتد من المطار إلى قلب سبها ما زال نفس الطريق لم يدركه التغيير، كثرت فيه الحفر والنتؤات وتآكلت جوانبه ،شجيرات الأتل المغروسة علي جانبيه توقف نموها يكسوها الجفاف والذبول. من عرف سبها قديما سيفقد الاحساس بالزمن، حتى مسجد البناية الذى تم بناؤه منذ خمسة عشر عاما تحول لونه الابيض الى الاصفر، وبدأ الطلاء يتساقط من على حوائطه، تآكل بابه اليتيم، وتكسرت اليد النحاسية واحيط ببحيرة من مياه الصرف الصحي، وعجزت السيارة اليتيمة التابعة لوزارة الاشغال أن تنزحها.
لم يتغير أى شئ هنا وكذب من قال عكس ذلك. والله و كبرت يا مهدي. قالها لي معارفي بشكل عتاب، ولكن سبها التى اعرفها .. هي .. هي، لم تكبر، الجديد الذى لفت نظرى هو اللافتات الكثيرة التي ارتفعت على دكاكين السوق مثل “محلات العتبة قزاز ” و ” صيدلية الصفاء ” و ” مقهى السعادة ” ،ولم يتغير أي شئ هنا سوى مسحة من الحزن الطيب تعلو الوجوه، والصبر الذى تحول الى فلسفة ساخرة، متداولة بين الناس : والله مازال فيك الخير يا مهدي. سمعتها اكثر من مرة يتبعها تأنيب بسخرية محببة: طبعا لقيت الشطيطة والراحة .. باهي والله أنكم وأخيرا أتفكرتوا بلاد اسمها فزان.. والله يا جماعة الدنيا ما زال فيها الخير .. واخيرا جماعة الجرائد افتكرونا، بالله يا وليدي ما تتعبوا روحكم ،رانا ملينا من الكلام، وزير واصل ووكيل مسافر، ولجنة دائمة مقيمة في المطار مهمتها الاستقبال والتوديع، ويا اهلا بالبي .. وجانا الخير ياجماعة.. واذبح يا ولد الخرفان. وبعد أن يملاء البي البطينة، ويتكرع، يطرح علينا السؤال التقليدي : شنو هي مشاكلكم يا جماعة ؟ ثم يصرخ متأفئفا: أف شنو ها الحر ؟ فيصيح الجميع فى صوت واحد المروحة يا جماعة المروحة من فضلكم، وقبل أن ينتهي من مسح العرق المتصبب من جبينه يحضر السكرتير ليعلن حان وقت العودة للبي، وفى المطار يقول الجملة المعهودة، كونوا هانيين، انشاء الله ما يكون إلا خير. ويسافر بي، ويرجع بي، ويبقي الحال كما هو عليه. بالله يا وليدي مهدي خليها سايرة المهم انك جيت وشفناك، خليك من مشاكلنا، يا وليدي الحكاية حكاية قوة، اللي عنده القدرة يسافر هناك علي الشطيطة، واللي ما عنداش الله غالب عليه.
لم يتغير أي شئ هنا وكذب من قال عكس ذلك. امتد البناء بضواحي سبها بدون تخطيط أو تنسيق وبدون اي معيار جمالى ،المتسللين من تشاد والنيجر يملؤن الشوارع ينامون في الطرقات فى انتظار من يستخدمهم،وليل سبها. الساحر تحول إلى ليل مزعج ينشط فيه الناموس بشكل مخيف ومزعج وروائح كريهة تنبعث من من خزانات المجاري الفائضة مساء سبها الذي كان رائعا تحول إلي مساء خانق يشعرك انك نائم في مستنقع أسن،
لم يتغير أي شئ هنا وكذب من قال عكس ذلك. سبع سنوات غبتها عن سبها وكنت أعتقد انني سأضل. طريقي فى شوارعها ولما لا فالتغيير المذهل الذي حدث فى مدن وقري الشمال كان كبير، ولكنني أصبت بالذهول بمجرد أن وطأت قدماى سبها فالصورة لم تتغير، الجديد فقط هو المطار الذي يفتح ابوابه اربع مرات قى الاسبوع لمدة ساعة في كل مرة ،وانا قادم في مهمة صحفية لكتابة تحقيقات عن الجنوب ( للحرية ) وسبها ليست هي كل مشاكل الجنوب بل كنت اعتقد انها الوجه الزائف للجنوب وقضاياه لكنني اكتشفت ايضا أن سبها اصبحت هى الاخرى قطعة من الجنوب الحزين المهمل.وهذه التحقيقات ليست موجهة إلى جهة ما بل هي موجهة إلى من يهمه الأمر ؟؟! ( جريدة الحرية 12/06/1969 م )