- محمود السوكني
صديقي يشكو من الوحدة في وسط عائلته ! فالأبناء الذين كانوا بالأمس صغارا يلاعبهم ، ويسرق ساعات من العمل في صحبتهم ، لم يعد الوقت يسعفهم لمنادمته ، ولم يتبق له سوى زوجته التي تنتظره لتشكو إليه وحدتها هي الأخرى !!
الكل مشغول بشأنه ولا يجد وقتا يضيعه في الحكاوي وجلسات السمر و ” دق الحنك ! “
فهذا منكب على كتبه وواجباته المدرسية ، وذاك انهكه العمل ولا يجد البيت إلا مكانا يخلد فيه إلى الراحة ، وتلك الفتاة التي كبُرت قبل وقتها مشدودة إلى الفضائيات والأحلام الوردية وعش الزوجية ، والكل منصرف إلى شأنه لا يعلم عن الأخر اكثر مما يعلم عن أخبار الجيران !! وإذا ماحدث لقاء ، فهو في الغالب يكون مبرراً لقضاء حاجة ، كتسديد فواتير، أو دفع مصاريف ، أو تنفيذ مطلب ما ، وبطريقة ملحة لا تأبه لأي ظرف ولا ينفع معها أي عذر ! صديقي لا يعاني الأمر وحده ، بل هي حالة اجتماعية تشهدها أغلب البيوت الليبية التي افتقدت جو الألفة والجلسات الحميمية واللقاءات التي تفيض مشاعرا ويغمرها الإحساس بالبهجة والحبور.. كانت قعدة الشاهي من الطقوس الثابتة في البيت الليبي ، ولاتتوقف على طاسة واحدة ، بل تستمر لدورتين ، والثالثة تختتم ” بالكاكاوية ” و في المناسبات أو عندالأسر المقتدرة تكون باللوز! وقعدة الشاهي هذه لم تكن لغرض احتساء الشاهي وكفى ، بل كانت مدعاة للم شمل الأسرة ، وتبادل الأحاديث ، وتناقل الأخبار وتوثيق الصلات بين أفراد الأسرة وقد تضم اقارب وجيران ومعارف ، كانت هذه القعدة مظهراً يومياً ثابتاً لا يسجل غياب أحد إلا لعذر قاهر ، غير ذلك فالتخلف عن حضورها مرفوض وممنوع ومستنكر أيضا !
جلسات الشاهي هذه لم تكن تقتصر على هذا الشراب الساخن فقط ، بل كان هناك ” القسطل ” في فصل الشتاء الذي يتم الاستعانة بأكله ساخناً في مواجهة برد ذلك الفصل ، كما يستعان بغيره من الثمار والبقوليات في فصول أخرى .
في هذا الزمن ، افتقدنا هذه الجلسات المرحة واللمة الجميلة ، واللقاءات الحبيّة الممتعة بعد أن داهمنا هذا العصر بتقنياته المعقدة التي تأسر الحواس ، وتشد الإنتباه ، وتمنع التواصل ، وتخيم على البيت بجوها المشحون المتوتر و الكئيب في آن !!
افتقدت الأسر الليبية تجمعها اليومي حتى على موائد الأكل ، فلم يعد الأبناء ينتظرون رب الأسرة ليتحلقوا حوله على سفرة الغذاء ، فالبعض يأكل منفردا ، والبعض الآخر لم يعد يستطيب المطبخ الليبي بدعوى الحمية ومراعاة الوزن ، و..فساد الذوق !
كان حلم أولياء الأمور ، أن يبنوا شققا فوق بيوتهم ليضموا فلذات أكبادهم وأسرهم الصغيرة ويلتئم شمل الجميع في حيز واحد ، فإذا بالأبناء كل يسعى لمدخل خاص له وحده بداعي الخصوصية والاستقلال عن البقية ولوکان -البقية-والداه اللذين تكبدا المشاق حتى بنيا له ذلك البيت الصغير وزوجاه لينعما برؤيته ورعاية أطفاله والمشاركة في تربيتهم والتمتع بصحبتهم في آخر العمر ، ولكنها الحياة التي تغيرت ، والزمن الذي جار علينا وحرمنا من صحبة أبنائنا ، فما بالك بأحفادنا !!
هذه العلاقة البائسة لا نشهدها إلا في المدن الكبيرة ، أما تلك الصغيرة والنائية والقرى الجبلية البعيدة عنا ، فالعلائق مازالت تحتفظ ببريقها ، والوشائج أكثر تماسكا واشد وثاقا ، والترابط الأسري التزام إخلاقي لا فكاك منه، ولا مهرب منه إلا إليه ، ولهذا تجد المواطن من تلك الأماكن الطيبة يتمسك بإنتسابه إليها ، وبالتواصل معها مهما اغترب وبعد ، ويصر على امتلاك قطعة أرض او مسكن يعود إليه متى حانت الفرصة لذلك ، حتى لا يفقد ارتباطه بناسه وأرضه وحتى لا تضيع لحمته وتتسرب سيرته من ذاكرة الأحباب ورفاق الطفولة .
هذا هو الفارق بين الدواخل والحضر ، رغم أن وسائل التقنية انتشرت هناك ، كما هو حالها على الساحل ، ولم يعد هناك حائل بين تلك الشبكة العنكبوتية للاتصالات والبشر أينما كانوا ، وأينما وجودوا ، لكن أسلوب الحياة الذي صنعته ظروف المنطقة ، يختلف بالضرورة من مكان إلى آخر ، ولهذا كان التأثير الوافد اشد وأكثر وضوحا على مدن الساحل منه على القرى والنجوع والواحات ومدن الداخل ، وانعكس ذلك على سكان المنطقة بحسب أعرافها وتقاليدها وأصولها .. للساحل بريقه وسحره وأضوائه المشعة ، وله أيضا ضريبته الثقيلة المكلفة التي قد يصعب تقبلها ودفع فواتيرها.