قـــحْـــــــني

قـــحْـــــــني

محمد مسعود

بنْقْدَوره” بستان خصيب كان بيتنا الطيني قديماً يطلُ عليه ، فيلفحه بتحايا الصباحات الندية وهدهدات من تواشيح المساء الهادئة حينما تخذله الشمس بغيابها ، هنالك خلف كثبان الرمل وبعض مرتفعات حجرية باتجاه مداخيل الحمادة الحمراء ، ذلك المكان القصي الذي تمارس الشمس فيه إغفاءتها اليومية ، حيث لا يعكر صفوها أمر .

وبين زهرة شجرة البرتقال والعبق المتطاير من أوراقه شتاءً وبين ما تجود به خضرة الصيف المتنوعة ، تبقى سمة   الركن الجنوبي الخصيب يساراً بأخر البستان هي تلك الرائحة النفاذة على مدار العام ، حيث كان يجود بتبيان موقع الأطايب ويوشي بها .

جلت بناظري وأنا أتبين ملامح الأمكنة وأنفاس الناس ، حتى نبرات أصواتهم المغروسة بأقاصي الذاكرة كانت ماثلة كثيراً ، لدرجة إني انسلخت مني للحد الذي كان يشابه الإغفاءة بل قد يتعداها للغيبوبة أو الموت السريري ، فيما كانت تضاريس المكان الحالية تفرض واقعا منفّراً بغيضاً ترفضه عيني ، وكانت تجاهد أن تستحضر بعض من تفاصيل تلك العوالم .

كالمجنون كنت أشير لذلك الذي يعبث بحرمة بيتنا الطيني كأنه لا يراها وأنا أشير له تنحى يمينا قليلاً أولا ترى ؟ ، ثم كيف ستسدّ مدخل البيت وخطوات (أمي) ماثلة لا تزال ؟ ، كيف لكم أن تفسدوا على طهر الأرواح تجوالها بعوالمهم الجميلة ؟، فهنا كانت تنظف وتطهو وهنا كانت تطارد نزقي وتصيح بطفولتي ، وهنا .. وهنا .. وهنا .

 لكن اليباس حلّ ، وغادر الخضار ذلك البستان الخصيب وزحف عبث الاسمنت البليد كثيراً  ، وفيما كنت أجاهد أن أرتب بعض ملامح ذلك الإرث المغروس بالروح ، كان هطول العبرات لا يتوقف يذكي الوجع . وكان أن نكست الرأس انكساراً لمّا ما كان لي أن أتقبل واقعاً مريراً كان يفرض نفسه ، وكان كعادة الطهر دائما وأبداً أن لا يخذل مريديه وجدت يدٌ تربت على جزعي لما استوضحت صاحبها   وجدته هو ، مقبلاً من تشابك النخيل كعادته ببنطاله الداكن يحمل حارة من ثمر ، يدس رأسه لمقصورة  سيارة (اللاندروفر) يهدهد رعب طفل يرتجف من شخصه ، ثم يمد يده لجيب بنطاله ، يتناول حارة من ثمر يمدها لذلك الطفل ثم يربت أخرى على كتفه دون أن ينبس ببنت شفة ، ثم يمضى لتأكله القرية حيث ما كان لطفل ليعرف وجهته بعد أول منعطف يلج له . انه (قحْني) الإنسان صاحب القهقهة المدوية المقبل بصمت والمغادر بصمت ، مُرعب الأطفال الذين لم يؤدهم يوما سوى بتخيلات مرعبة ، ما كان ليحققها لهم سوى بحارة ثمر وقهقهة مدوية تسخر من واقع كان يراه ببصيرة ما كنا لنراها ، وكان يرفضه بان يتوارى خلف أول منعطف يلج له .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :