هند الزيادي
رواية قصيل للكاتبة الليبية عائشة إبراهيم، كانت قد وصلتني هدية من الأستاذة سارة سليم وهي القارئة الحصيفة فأسعدتني بها خاصة أنها الرواية الأولى لها، وتعرفون ولعي بقراءة الروايات الأولى. لم أتمالك نفسي عن قراءتها مرتين في الواقع من شدة حلاوتها وجمالها. وحين قررت أن أكتب عنها كنت متحسّرة أن الوقت والإطار لا يكفياني لأوفيها حقّها ولكن مع ذلك سأكتفي بهذا المقال لأقدمها رغم أنها كانت سابقا موضوعا لعدة مقالات ودراسات ولكني أزعم، وأتمنى أن تجدوا فيما سأكتبه إضافة تثري سجلها النقدي.
اختارت الكاتبة لروايتها إذن، بنية عنقودية تتمثل في عشرين فصل منفصل متصل يشكّل الرواية في 87 صفحة، ورغم قلة عدد صفحاتها فإن مشروعها كبير جدا وعميق سأحاول كشف بعض تفاصيله هنا.
تقول الكاتبة في إحدى حواراتها :” “” في رواية قصيل كانت الخلفيات هي المشاهدات المعيشة في الواقع والسجل الثقافي للمنطقة التي عشت فيها” لذلك كان من البديهي أن أتخذ المنظور الإتنوسينولوجي أداة مناسبا لمقاربة هذه الرواية العجيبة الجميلة
يقول جون ماري برادييه أب علم الاتنوسينولوجيا في أحد محاضراته المؤسسة “إنّ الحدث الاتنوسينولوجي هو حدث معقد يشمل فردا أو مجموعة يُنظر إليهم في وحدتهم البيولوجية النفسية الروحانية والاجتماعية“
و تُعرّف الإتنوسينولوجيا في القاموس الفرنسي بكونها علم يقع عند تقاطع الإتنولوجيا مع الفنون المرئية فيُعنى بتحليل الممارسات المشهدية لمجموعة بشرية ما مثل الرقص والغناء والطقوس ،وفهمها وتأويلها في سياقها الثقافي والإجتماعي. وهذا ما قامت به الرواية ، في اعتقادي، بما هي في جوهرها عرض مكتوب للموروث الثقافي لمدينة بني وليد. وتقاطع بين اللغة والمشهدية.
تبدأ الرواية بصوت لصبي في مقتبل العمرمن ابناء الستينيات يدعى حامد ثم ينزاح الاسم من هذا الاسم العام الذي يمكن أن يشير لأي مولود ذكر إلى إسم لا يحمله غيرهذا الصبي بالذات ” قصيل” هو اسم اوراق الشعير حديثة الانبات، تلك التي تعود على أكلها. فيحدد منذ البداية علاقته بتلك المدينة فإذا هي التربة التي نبت فيها ذلك القصيل ورمى جذوره. قصيل هذا كان هو كاميرا الكاتبة التي تجولت بها في المكان والزمان لتحملنا إلى جولة في ربوع مدينة بني وليد عبر الأزمنة (مدينة لييبة في الشمال الغربي لليبيا وتبعد عن العاصمة طرابلس حوالي 180كم). الكاتبة استعارت من اللغة السينمائية المشهد البانورامي وجعلتنا عبر عين الفتى فصيل نجتبي في كل مرة مكانا عاليا مختلفا يشرف على المكان ويكشف لنا منه ورقات من تاريخه (الجلهة/المطل المرتفع/سطح منزل/البرج/مئذنة الجامع/القلعة الحجرية القديمة وهكذا)، فيبدأ المشهد بوصف أصغر المكونات على طرفي القوس البانورامي : يطرح البطوم ثماره اليانعة الصغيرة….ثم يمتدّ إلى أبعد المكونات التي تمتد في المكان على بعدي العمق والعرض: “وتنضج أشهر الأشجار المعمّرة هناك والتي يطلق عليها الأجداد اسم النايخة“
تقول في صفحة 71 “من فوق هذا البرج أستطيع أن أسمع خرير السواقس بن تليس التي بنوها لتسقي زيتونهم قبل ان يشرب باقي زيتون الوادي، وأرى آبارهم الثلاثمائة وخمس وستين بئرا حيث يشربون كل يوم من بئر لا يعودون اليه حتى العام القادم، وأرى تعاقب الحكام من التلالسة إلى أبناء زناته ببزرة، إلى أبناء القرمانلي وأبناء البي، وجميعهم يتنعمون بالخيرات بينما يعاني السكان من جور الحكام والمجاعة والأوبئة وضنك العيش” . بالكلمات إذن تحول عائشة ابراهيم المشهد السينمائي الممتد في المكان إلى مشهد تاريخي ممتدّ في الزمان ، يروي قصّة المكان وتعاقب البشر عليه بأفعالهم وتفاعلاته معهم من أجل اكتساب الهوية عن جدارة واستحقاق. تتحول بطولة الرواية من البطولة التقليدية لشخص ذلك الصبي إلى بطولة أسطورية للمكان الذي يمنح القارئ أسراره تدريجيا كلما أمعن النظر.
في مناخ هادئ مسالم يتمازج بالصوفية تنقل لنا الرواية مشهديات متعددة يعرض بها الوليديين أفراحهم وأتراحهم (مشهد ولادة سعدة/ مشهد الزواج/ مشهد وفاة الشيخ/ جني الزيتون/ حلقة الذكر/ الملهاد….وتأخذنا عائشة ابراهيم إلى تفاصيل اللباس وحركات الأجساد وروائح الأكل ومشاعر الناس وهم يقومون بتلك الحركات ويستسلمون لها في اعتزاز واضح بها بما هي جزء من تلك الهوية التي حاولوا الحفاظ عليها رغم تعاقب الأجيال والمِحن.
يدعونا قصيل الطفل لنسافر معه من عالم طفولته اللاهية الغافلة وشجراته التي يتسلقها وعصافيره التي يربيها إلى عالم الكبار الناضجين لما يموت جده وهو قطب من أقطاب الصوفية وتبدأ المؤامرات على الأرض والمعمار القديم ونمط الحياة من أجل تغييره وهدمه لتأسيس عالم استهلاكي جديد على أنقاضه، فيتصدّى الصبي لمعركة الهوية ويحفتظ بصندوق الشيخ/ميراثه الذي لا يحوي أوراق ملكية الأرض والعقارات الأثرية فقط بل يحوي كامل تاريخ المنطقة منذ أيام الاحتلال العثماني الذي برك على المنطقة وسلب خيراتها فإذا أهلها يتظلمون ، بالإضافة إلى عقود زواج وبيع وشراء وإشهاد على دين.
الصندوق تحول إلى ذاكرة ذلك المكان وصار الحفاظ عليه يعني الحفاظ على الهويّة وعلى تاريخ الوليدين وفعلهم في ذلك المكان، ولأنه كذلك فلم يسلم من المؤامرات عليه من قوى لا تحمل هوية المكان وتستخدم الحيلة لتجرّده من أهله الحقيقيين وتستحوذ عليه مستغلة جهلهم لتبث فيهم كذبة الجن الذي استولى على الآثار والساحات القديمة والجامع وتجعل الأهالي هم بذاتهم من يطالب بهدم كل تلك المعالم .يختفي الصندوق وتختفي معه روح الوحدة مع المكان وبين الأهالي وتنتقل بنا الرواية من مشهديات احتفال جماعي وانتماء ووحدة إلى مشهد فردي حزين هو مشهد انتحار الشباب في قرار آحادي الجانبيصدم أهاليهم. لا ينجو قصيل نفسه، الشاب المفعم بالحياة من مشهد الموت فيشنق نفسه على نفس تلك الشجرة التي شهدت لعبه ولهوه وتعلقه بالحياة. يفعل ذلك ندما على عدم قدرته على حفظ السرّ/الصندوق العظيم، وهو أمرر جلل عند الصوفية فهؤلاء يمكن أن يلتجؤوا للتواصل باللرموز لو خافوا أن ينكشف سر طريقتهم ويشيع بين الناس فيهينوه بفهمه على غير صوابه).
الرواية مشهديّة بامتياز، و مكتنزة وثرية جدّا لأن الكاتبة عائشة ابراهيم من أنصارمبدإ البلاغة في الإيجاز لذلك لا نجد ثرثرة ولا فضلات لغوية هنا وهناك لملء فراغ السطور بل تعمد إلى الإقتصاد اللغوي فيتحول المخفي إلى أكثر جوهرية من المكشوف/ المعلن /المرئي، وإذا الرواية تمارس التقية الصوفية حفاظا على سرّ المكان وجماله بأهله ومشهدياته، فتدفعك إلى العودة مرارا إلى السطور لتقرأها وتعيد قراءتها لتفك شيفرة تلك الحياة وتجهّزك لصدمة تلك الخيبة الختامية عندما ينتصر اللقطاء على أهل المكان ويفتكون منهم كنزهم.
ويظهر ذلك الاقتصاد جليّا عندما تقول الكاتبة في مشهد النهاية فيما يشبه محاكمة البطل لنفسه ملخصا كامل الرواية في خمسة أسطر:
“لم أستطع التقاط ذلك الخيط الفاصل بين مشاعر حزينة مهزوزة حائرة تتشبث بروح المكان وتتلمس الدفء والسكينة في جذوره الضاربة في عمق الأرض وعمق الذكرى وعمق التاريخ، وبين مشاعر أخرى مغرورة واثقة متسلطة تتنكر لماضيها فتدمره وتحيله الى مساحة جرداء من الإسمنت الأشهب المنزوع الروح بلاماض ولا حاضر ولا مستقبل” ص85. وهكذا يتدرج قصيل في محاكمته لنفسه إلى مشهد الختام حيث يأخذ القرار الأكثر فردية والأكثر أنانية وينصب لنفسه مشنقة رمزية وحقيقية ويختار معاقبة نفسه بالموت لأنه خضع للقبح والبشاعة وأمضى عريضة هدم المدينة العتيقة وشارك في اندثارها بعد كل ما منحته من جمال ودفء وحب.
الرواية لا تستطيع أن تقرأها مرة واحدة لتتكشف لك كل كنوزها. عليك أن تقرأها مرة ومرتين وأنت تترشف رحيق الكلمات وتستطعم كل ذلك الجمال البسيط في مدينة لم تزرها فإذا بعائشة تأخذك إلى تفاصيلها وتجعلك مشبعا بروحها بسحر كلماتها وحده.
الرواية تستحق ، أكيد،أكثر من هذا المقال المقتضب، وقلم عائشة ابراهيم محطة مهمة جدا في السرد الليبي يستحق كل التقدير والانكباب على دراسته لأنه حمّال هويّة وصاحب مشروع سردي مكتمل المعالم.